إن المتابعة غير المسبوقة فى حجمها لمحتويات خزانة البرقيات السرية لوزارة الخارجية الأمريكية، التى ألقى بها موقع ويكيليكس على شبكة الإنترنت أشبه بقراءة انتقائية فى تاريخ الحاضر. وقد تَصدَّرت الحكايات عن رياء الدبلوماسية والوجوه الحقيقية لقادة الدول الأجنبية العناوين الرئيسية للصحف. والصورة الرئيسية التى نشاهدها هى لأكبر دول العالم وهى تقاتل من أجل الحفاظ على صدارتها . إن الدبلوماسيين الأمريكيين يتمتعون بأسلوب حاد فى الكتابة، لكنه دقيق بوجه عام. فالرئيس الإيطالى سيلفيو بيرلسكونى هو فى حقيقة الأمر شخص عديم الجدوى، وهو فى مجال السياسة الخارجية دمية يحركها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ونيكولا ساركوزى يوصف بأنه متهور ومتغطرس وقد سمعت من الدبلوماسيين الفرنسيين ما هو أسوأ من ذلك. ولدى اعتقاد بأن ديمترى ميدفيديف لن يكون سعيدا تماما بوصفه، وإن كان ذلك فى برقية دبلوماسية كتبت فى 2008، ب«روبن رفيق بوتين الرجل الوطواط». ويحرص ميدفيديف هذه الأيام على أن يخبر زائريه بأنه المسئول الوحيد عن دبلوماسية روسيا الخارجية. وبسبب تخريبه لعملية السلام فى الشرق الأوسط، لم يفلت بنيامين نتنياهو تماما. فإحدى البرقيات تصف رئيس وزراء إسرائيل بأنه أنيق وجذاب، لكنه لا يميل إلى الوفاء بوعوده. أما بالنسبة للتصرفات غير اللائقة لأفراد الأسرة المالكة البريطانية، فليس هذا بجديد. وبالرغم من أن إذاعة هذه النميمة رفيعة المستوى سيجرح كبرياء كثيرين، فإنها فى الواقع تمثل شيئا معتادا فى التقارير الدبلوماسية. وبالطبع، سيكون للتسريبات تأثيرها الضار على مصالح الولاياتالمتحدة. وستلقى إدارة أوباما صعوبات أكبر فى كسب الأصدقاء وفى التأثير على الناس. ورغم ذلك، فإن الإثارة الأشد نجدها فى تلك البرقيات المتصلة بالسياسة، لا بالشخصيات. وهنا نرى نفاق بعض حلفاء واشنطن، وكذلك سوء تقدير أمريكا وأكثر ما نرى هذا فى الشرق الأوسط. وليس هناك جديد فى عداء العرب لإيران الشيعية. ومنذ مدة طويلة، تقبل السعودية السنية وبعض دول الخليج بفكرة ضرب أمريكا للمنشآت النووية الإيرانية، فى حين أنها تتبرأ فى العلن من أى نوايا عدوانية تجاه طهران. ورغم ذلك، فمن المذهل أن ترى هذا مكتوبا. وضغوط واشنطن تجعل بعض المواقف العربية تجاه النظام الإيرانى تبدو مماثلة لموقفها من إسرائيل. وهذه الازدواجية ليست قاصرة على إيران وحدها. فحكومة اليمن تشعر بالسعادة وهى ترى واشنطن تستخدم الطائرات بدون طيار فى قصف متمردى القاعدة فى بلدهم. لكن على الولاياتالمتحدة أن تتمسك من جانبها بشدة بالرواية المعلنة من أن هذه الهجمات تتم بواسطة القوات اليمنية. وفى أفغانستان، وُصِف حامد قرضاى بأنه مصاب بجنون العظمة، ويُعتقد أن له أخا قويا متورطا فى الفساد وإنتاج الأفيون. لكن واشنطن ليس أمامها إلا التغاضى عن الأمر، فليس أمامها أى خيار أخرى. وبالمثل، سدت حكومة إسلام أباد الطريق أمام أى محاولة جديدة لتسريب المواد النووية من باكستان، التى رغم اعتمادها بشدة على الأموال الأمريكية، تصر على ترك الخيارات مفتوحة أمامها. ومن موضع آخر فى الوثائق، نعلم أن روسيا لم تقتنع بتأييد فرض الأممالمتحدة المزيد من العقوبات ضد إيران إلا عندما تخلت إدارة أوباما عن خطة نشر دروع الصواريخ بعيدة المدى فى أوروبا. وتقوم الصين بهجمات إلكترونية ضد الشركات والمصالح الحكومية الأمريكية. كما كان لابد من رشوة الحكومات الأوروبية كى توافق على استقبال سجناء من جوانتانامو. إن الصورة التى نراها هى صورة لعالم تمتلك القوة العظمى فيه حليفا فى كل معركة، ومع ذلك فهى لا تتوقع العون من أى أحد. فبالرغم من أن نتنياهو يريد من أوباما مهاجمة إيران، فإنه لن يتزحزح عن موقفه قيد أنملة كى يساعد الولاياتالمتحدة فى استئناف المحادثات مع الفلسطينيين. وتقول روسيا إنها تعارض التسلح النووى الإيرانى بقدر معارضة الغرب له، لكنها تتوقع ثمنا نظير تعاونها فى هذه القضية. ويوبخ الأوروبيون واشنطن بسبب طريقة تعاملها مع المشتبه فى ضلوعهم فى الإرهاب، لكنهم لا يريدون المساعدة فى تغيير الأمور. وتريد الحكومات العربية من الولاياتالمتحدة أن تحميها من إيران، لكن على أن تظل ترتيبات هذه الحماية سرية. إن كل ما يقوله هذا هو أن قوة أمريكا تتراجع. وأنه فى عالم الدول الصاعدة والانتشار النووى والإرهاب الدولى، لا يمكن لأمريكا أن تكون على ثقة من المضى قدما فى تحقيق أهدافها. أما إلى أى حد يشعر الآخرون بالسعادة نتيجة ذلك، فهذه قضية أخرى. وبفضل ويكيليكس وال250 ألف وثيقة، ألقينا نظرة على بعض البدائل. ولنا أن نتساءل: ما الذى يمكن أن يفعله احتيال دبلوماسى بسيط فى وجه سباق التسلح النووى فى الشرق الأوسط، على سبيل المثال؟