هناك شِعر يجلب الشجن، وآخر يأتى بالبهجة.. وشِعر يستحضر ليلة شتوية مع موسيقى ومكسرات، ومدفئة إنجليزية.. وآخر يذكرك بالأحبة أو يقلب عليك المواجع.. لكنّ سالم الشهبانى يداعب منطقة خاصة من الذكريات. مع أبياته العامية، سوف تتذكر ألعابك الشعبية مع أولاد الجيران أمام البيت، عندما كان السكان يشكون من الضجيج، وأمك تدلىَ نصفها من الشباك محاولة ردعك عن أعمال «الشياطين» هذه، كى تصعد للغداء، أو عمل واجبات المدرسة. وأنت مهموم ب «نحلتك» الخشبية، التى استقرت فى دائرة صغيرة مرسومة على الأرض، والأولاد يقومون بتنشين نحالهم عليها. كبر سالم، وذكره دوران النحلة الخشبية المدببة بدورانه فى قلب الدنيا كالتنورة، قال: أخضر كأنى الشجر.. طارح فى ليل أبريل.. كأنى سور الحديد على كوبرى قصر النيل صندوق رسايل بريد شايل جواب أو صورة عصفور كنارية وحيد.. وإشارة مكسورة والليل كأنه سور.. بيعكس الصورة أنا ف مكانى بادور.. وإنتى الحياة تنورة.. خاف سالم الشهبانى على ألعابه من الاندثار، وراح يؤرخها بمشروع شعرى راقٍ، سماه «الأبيض كل الألوان»، فصدر أوله منذ فترة عن دار أكتب، معنون ب «القطة العميا»، وثانيه مؤخرا عن الدار نفسها، عنوانه «شبر شبرين»، فتحولت الأبيات إلى فلسفة، وعَمدّته الألعاب شاعر عامية نادر. عرفنى عليه الأستاذ أسامة الرحيمى، صاحب المزاج الأدبى الخاص، وكنا نعد لصدور الجريدة، قرأت أعماله الأولى وفرحت، وانتظرت فرصة للكتابة عن شعره. بعد فترة سأعرف أن علاقته بالشعر بدأت عندما كان أبوه، أحد شعراء قبيلة «الشهبان» ذات الأصول السيناوية، يأخذه لأفراح البدو، ويسمع ارتجالهم، فأصبح الشعر ملاذه، يقول: «أحتمى به ويكونلى صديق لما الدنيا تضيق عليا». ولأن أمثاله لابد لهم من علامات، أتته الظروف بوظيفة مدير قصر ثقافة عين حلوان، وهى المنطقة التى تربى بها، بعد أن أتى أهله إليها وهو فى الخامسة، وعاشوا وسط بَدوها، يحكى: «المكان بتاع القصر ده كان جنينة وكنت بلعب فيها بالشورت، واعرف أهله كويس، فكانت صدفة سعيدة، إن الجنينة تتحول لقصر ثقافة، وابقى مديره». عندما أقام حزب التجمع حفلا لتوقيع «شبر شبرين»، كان أغلب الحضور من أبناء جيلنا، رجعنا بالذاكرة مع سالم لسنوات اللعب، وقرأ هو من دواوينه الخمسة، «ولد خيبان»، «السنة 13 شهر»، «القطة العميا»، «الملح والبحر»، و«شبر شبرين». كنت أجلس فى الصف الأخير، ولم يلفتنِ عن الشعر غير همهمة أحدهم لصديقه بين حين وآخر، يذكره بتلك الأيام، وصوت سالم يتخلل الهمهمات بأبيات «القطة العميا»: معصوب بالبكا وعميان، فارد إيديا.. كأنى طير بالبكا نشوان.. كل امّا ينغُزنى الفرح، أبكى.. ابتسم، وابكى.. كل الحاجات، خيالات.. وش أمى بيطاردنى فى كل خطوة، فى كل سكة ويعاتبنى ع اللى فات.. هنيئا لك ب «اللى فات» يا سالم، فها هو يختمر، ويختلط بجينات الحكى البدوى المرتجل، ويُخرج من ألعابنا الفقيرة، شجرة شعرية كثيفة الفروع والأوراق، ذات ثمر، ويحقق المعادلة الصعبة بين غزارة الإنتاج وجودة المنجز، وهنيئا لأمك التى لابد وأنها تراجعت عن معاتبتك.