عبر تاريخ طويل وجغرافيا ممتدة من الوادي إلى الدلتا والسواحل والصحاري، استطاع المصريون تحويل بساطة الموارد إلى ثراء غذائي لافت؛ فالمحصول الواحد أصبح منبعا للإبداع والتنوع، ومن القمح إلى الأرز صنع المصريون وصفاتهم التراثية، معتمدين على الخبرة المتوارثة، واختلاف البيئات، وابتكار طرق طهي وإضافات منحت المائدة المصرية تنوعا استثنائيا رغم محدودية المكونات، ليؤكد هذا التراث الغذائي أن تنوع الطعام في مصر كان انعكاسا لعبقرية الإنسان المصري في حسن استغلال المتاح، وهو ما يوضحه مؤلف كتاب "تاريخ في خزانة المطبخ" الكاتب والباحث عبدالله عثمان، من خلال حديثه ل"الشروق" في السطور التالية.. القمح.. محصول واحد وعشرات أنواع الخبز يقول عبدالله، إن القمح شكل العمود الفقري للغذاء المصري منذ العصور القديمة، إلا أن المصريين لم يكتفوا بنوع واحد من الخبز، بل أبدعوا في تنويعه عبر اختلاف طرق العجن والطهي والإضافات. وأضاف أن من القمح خرجت أصناف عديدة، مثل الخبز الطري، والرحالي، والشمسي، والرقاق، والفطير، والخبز المحمص، والشقاقي، وهو تنوع يعكس تراكم خبرات غذائية متوارثة عبر الأجيال. اختلاف الإضافات والمذاق يوضح عثمان، أن بعض المناطق اعتادت إضافة "الشرش" المصفى من اللبن المُعد لصناعة الجبن إلى الدقيق والخميرة، لينتج نوع من الرقاق الطري يشبه خبز "التورتيلا" المعروف، بينما فضلت مناطق أخرى إضافة السمن البلدي إلى الدقيق والملح والخميرة، ما نتج عنه مخبوزات منفوشة وسميكة تذوب في الفم. تعدد الأسماء واختلاف الجغرافيا أضاف أن هذه المخبوزات نفسها حملت تسميات مختلفة من منطقة إلى أخرى، ففي وسط الدلتا تعرف باسم "الكماج"، وفي كفر الشيخ تسمى "البكاكين"، بينما تعرف في الشرقية باسم "القبوري". وأشار إلى أن "القبوري" هو الاسم نفسه الذي يطلق على الخبز الذي يصنعه سكان الصحراء الشرقية مدفونا في الرمل تحت الجمر، لافتا إلى أن هذا التشابه قد يكون أصل التسمية، مع اختلاف طريقة الإعداد، حيث يصنع في الشرقية طريا ومقرمشا. الأرز.. تنوع لا ينضب أضاف عثمان، أن الأرز، بوصفه طعاما رئيسيا آخر على المائدة المصرية، شهد هو الآخر تنوعا واسعا في وصفاته، من أرز الصيادية الشهير في المحافظات الساحلية، إلى الأرز المحمر والمختوم، والأرز باللبن، والأرز بالشعرية، وأرز الكشري المطهو بإضافة العدس. وأوضح أن الكشري الفلاحي يمثل نموذجا خاصا، إذ يطهى في الفرن بإضافة الصلصة والبصل والبطاطس والعدس، ليعكس مزيجا من البساطة والغنى في آنٍ واحد. وأشار إلى أن "الأرز المعمر" يعد من أكثر وصفات الأرز تميزا، حيث يطهى باللبن والسمن البلدي ويترك ليكون وجها ذهبيا مميزا، معتبرا إياه مثالا واضحا على قدرة المطبخ المصري على تحويل مكونات محدودة إلى طبق شديد الثراء. كفتة الأرز والذاكرة الجمعية لأطفال البيوت المصرية تابع عثمان حديثه، موضحا أن من أبرز صور الإبداع المصري باستخدام الأرز "كفتة الأرز" أو "الكباب الكداب"، وهي وصفة نباتية شائعة في فصل الشتاء، تصنع من الأرز المطحون مع الشبت والبقدونس حتى تتحول إلى عجينة خضراء تشكل أصابع وتطهى بالتقلية ثم الصلصة. وأضاف أنه في الأعياد، كانت السيدات يضفن اللحم إلى كفتة الأرز ويقمن بتحميرها قبل طهيها، في تحول موسمي يعكس مرونة الوصفة وتكيّفها مع المناسبات. واختتم حديثه، واصفا تلك الوصفة بأنها جزءً من الذاكرة الجماعية لأطفال البيوت المصرية؛ فعبر أجيال متعاقبة، كان الأطفال ينتظرون لحظة قلي كفتة الأرز، فيسرقون الأصابع المقرمشة قبل نزولها إلى الصلصة، في مشهد يعكس ارتباط الطعام بالحنين والطفولة، لا بالمائدة فقط.