مما لا شك فيه أن واحدا من أكبر المآزق التي كان على إدارة مهرجان كان مواجهتها في الدورة المقبلة هي اختيار لجان التحكيم، وخاصةً لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، إلا أن هذه الدورة تميزت باسم رئيسها وهو المخرج الأمريكي "تيم بيرتون" الذي لاقى اختياره في هذا المنصب ترحيباً وارتياحاً واسعين في الأوساط السينمائية. يأتي هذا الارتياح بعد ما كان عالقاً بأذهان السينمائيين المشاكل التي تسبب فيها الاختيار المثير للجدل للمثلة البريطانية "إيزابيل هوبير" لرئاسة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية في العام الماضي، رغم علاقة الصداقة الوطيدة التي تجمعها بالمخرج الألماني "مايكل هانيكي" المشارك في نفس القسم بفيلم "الرباط الأبيض". فقد كان مريباً تجاهل تلك العلاقة وفتح مجال للمجاملات بين الأصدقاء وهي الشكوك التي تأكدت بطبيعة الحال مع انتهاء المهرجان بفوز فيلم "هانيكي" بالسعفة الذهبية، وتطايرت الاتهامات تلقائياً حول قيام "هوبير" بالتأثير على أعضاء اللجنة التي ترأسها وتوجيه اختياراتهم، وهو ما وضح على وجه عدد من هؤلاء الأعضاء عند إعلان تلك الجوائز وخاصةً المخرج الأمريكي "جيمس جراي" الذي كانت ملامحه تنطق بالغضب في هذه اللحظة. لذا لم يكن أمر اختيار لجنة التحكيم بالأمر القابل للاستسهال به هذه المرة. وبالفعل يبدو أن إدارة كان قد وعت الدرس وذلك باختيار لجنة تحكيم تضم أسماء سينمائية قوية مثل الممثلة البريطانية "كيت بيكانسيل" والممثل البورتوريكي "بينيسيو دل تورو" الحائز على جائزة أفضل ممثل في نفس هذا المهرجان منذ دورتين عن دوره في رائعته "شي"، ذلك بالإضافة إلى واحد من أهم ممثلي السينما الهندية في الفترة الحالية وهو "شيخار كابور". ولكن الثقل الأكبر للجنة هذا العام يأتي بلا شك من اسم رئيسها وهو المخرج الأمريكي "تيم بيرتون" الذي لاقى اختياره في هذا المنصب ترحيباً وارتياحاً واسعين في الأوساط السينمائية سواء لمكانته في الصناعة والتي لا يستطيع أحد إنكارها أو لطبيعة شخصيته المغموسة بجميع الفنون والمعروفة بمسحة الجنون المسيطرة عليها لما هو في صالح الفن في النهاية بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى قد تضع اختياراته في موضع شك وتفقدها مصداقيتها. بيرتون معروف بكونه مخرج الألوان القاتمة، بل إن هذه القتامة مسيطرة على جميع أنشطته الفنية الأخرى المتعددة سواء مخرج أو كاتب أو فنان تشكيلي يرسم وينحت ويصور، بل إن هذه القتامة جزء لا يتجزأ من شخصيته. هذا الفنان الحقيقي بدأ حياته كرسام ومحرك للرسوم المتحركة في ديزني، ولكن نظرا لاختلاف الذوق الفني لبرتون لم يستمر في العمل كثيرا مع هذا الكيان الإنتاجي الضخم وقرر أن يشق طريقه منفرداً دون التقيد بتوجيهات أو تعليمات . كان أول عمل لبيرتون هو فيلم كرتوني قصير بعنوان" فينسنت"، نسبةً إلى ممثل أفلام الرعب الشهير "فينسِنت برايس"، هذا التعلق الشديد لبيرتون منذ صغره بأفلام الرعب كان له بلا شك أثر واضح في أغلب أفلامه التالية بحيث أصبح جو الرعب الممزوج بالفانتازيا السوداء علامة مميزة لأسلوب بيرتون الإخراجي. ويمكن اعتبار فيلم "بيتل جوس" هو حجر الأساس للمدرسة الإخراجية التي أسسها بيرتون لنفسه في أفلامه خاصةً مع النجاح الكبير لهذا العمل والولع الشديد الذي قوبل به من جانب الجمهور مما منحه الفرصة للمزيد من الجرأة في فرض جنونه وأسلوبه السينمائي المختلف طالما أنه لاقى قبول لدى المتفرج. لفت فيلم "بيتل جوس" الذي قام ببطولته "مايكل كيتون" عام 1988 أنظار استديوهات هوليود إلى برتون مما جعل وارنر برازرز تقوم بعرض فيلم الرجل الوطواط على برتون ليقوم باخراجه. وبالفعل نقل "بيرتون" شخصية الرجل الوطواط نقلة كبيرة ووضعه في قالب جديد مميز عما سبق تقديمه به جاعلاً منه تحفة فنية بالاضافة لتحقيق إيرادات هائلة في شباك التذاكر في جميع انحاء العالم. النجاح الذي حققه فيلم الرجل الوطواط أدخل بيرتون هوليوود من أوسع أبوابها، وتوالت أفلامه بأسلوبه المميز وألوانه القاتمة . وكان آخر أفلام بيرتون عرضاً في الأسواق فيلم "أليس في بلاد العجائب" الذي طالما حلم بيرتون بأن يصنعه ويضفي عليه لمساته الخاصة المستوحاه من ولعه بمؤلف قصة أليس “لويس كارول"، فكما كان "كارول" من أبرز مبدعي الفانتازيا المكتوبة ...فبيرتون يعتبر من رواد الفانتازيا المرئية. وجدير بالذكر أن "بيرتون" ليس غريبًا على مهرجان كان، حيث شارك بفيلمه "إد وود " (عن حياة مخرج الافلام أفلام الرعب الذي يحمل نفس الاسم) في دورة عام 1995 ولكنه لم ينجح في إقناع لجنة التحكيم آنذاك باستحقاقه للسعفة الذهبية التي ها قد جاء اليوم ليكون صاحب الكلمة العليا فيمن يستحقها بعد تلك التجربة بخمسة عشر عاماً كاملة.