«قصّة إنسانية مُلهمة، تعمق فى أبعاد الشخصيات، ترجمة لا تعرف الرتابة»، سمات أساسية فى رواية «مناورة الملكة»، التى أصدرتها دار الشروق، للروائى الأمريكى والتر تيفيس، وترجمة الروائى المغربى عبدالمجيد سباطة، والتى تتمحور حول واحدة من أكثر مسلسلات شبكة نتفليكس نجاحا. تدور أحداث رواية «مناورة الملكة»، الصادرة عن دار الشروق والمركز الثقافى العربى، عن فتاة يتيمة وفقيرة، نشأت فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فى حقبة الخمسينيات، التى تتميز بالمحافظة، ورحلتها لتحقيق ذاتها وأحلامها فى ظل كل تلك التحديات المجتمعية. حققت الرواية نجاحا مبهرا وشهرة واسعة بعد إنتاجها على منصة «نتفليكس»، لتصبح بذلك ظاهرة مجتمعية حقيقية، وتصدرت لائحة المسلسلات الأكثر مشاهدة فى تاريخ المنصة، كما أعادت لعبة الشطرنج إلى الواجهة مع مبيعات قياسية حول العالم. استطاعت الرواية الصادرة عن دار الشروق، أن تستحوذ على اهتمام القارئ منذ البداية وتورطه بشكل سريع فى الانغماس داخل النص، الأمر الذى ساعد على تحقيقه الترجمة الرصينة التى أتاحت للقارئ التعرف على الكثير من تفاصيل الصراعات الداخلية لبطلة الرواية، خصوصا ما يتعلق بعمق شخصيتها ومخاوفها ورغباتها. الأسلوب الخاص بالرواية أتاح التعرف على أكبر قدر من مخاوف «بيث هارمون» والمحطات المختلفة فى حياتها، حيث بدا واضحا مقدار حرص المترجم على تسليط أكبر قدر من الضوء على طبيعة نظرة بطلة الرواية إلى الحياة، وإبراز العلاقة الوطيدة بين الشطرنج والعلاقات الإنسانية بشكل عام. جاءت أكثر نقاط الرواية تميزا والتى تفردت من خلالها عن المسلسل التليفزيونى، هو أنها استطاعت تجنب المرور العابر على شخصيات الأبطال، حيث استغرقت فى أكبر قدر من التفاصيل الممتعة، التى فوتها المسلسل لصالح نقل وسرد الأحداث من زاوية خارجية لم تقدّم صدى لصوت بيث الداخلى وصراعاتها الشخصية المحتدمة بينها وبين الظروف المحيطة بها. التمهيد الخاص ببدء سرد الرواية يتم بإتقان ممزوج بلغة سهلة ومشوقة، حيث نتلمس ذلك فى نصوص مثل: «تعلمت بيث كيف تدّخر حبوب المهدئات لتناولها ليلا، كانت تعينها على النوم بعمق، تُدخل الحبة المستطيلة فى فمها، عندما تتسلم حصتها من السيد فيرغوسن، ثم تضعها تحت لسانها وتأخذ رشفة من عصير البرتقال المعلب المصاحب وعندما ينتقل السيد فيرغوسن إلى الطفلة التالية تسحب الحبة من فمها ثم تضعها فى جيب وزرة الطالبات الصغيرات التى ترتديها، ولم تكن الحبة تذوب خلال احتفاظها بها تحت لسانها». ركز النص بأكبر ما يكون فى حبكاته وتفاعلات أبطاله على تقديم قصّة إنسانية مُلهمة، تتجاوز حدود قصة مشوقة عن مُراهقة عبقرية تجيد لعب الشطرنج فى عالم ذكورى، إلى كونها رحلة كفاح فتاة تجاوزت محنة يُتمها، يتم تقديمها فى وعاء لغوى سهل وسلس، ليبرز فى الأساس رسائل ودروس ملهمة عن فتاة قاومت ضعفها الشخصى تجاه الإدمان، إلى أن انتصرت عليه فى النهاية. لا تستغرق الرواية وقتا طويلا، لكى تضعنا فى القلب من الأحداث، بترتيب منطقى وانتقال سلس بين المشهد الافتتاحى الذى يتم فيه إخبار فتاة بأنها أصبحت يتيمة فجأة ودون سابق إنذار بسبب وفاة والدتها فى حادث، لندخل معها سريعا إلى مأوى الأيتام، وتبدأ الأحداث فى التشكل، حيث قصة بيث هارمون، اليتيمة الصغيرة التى تعلّمت أساسيات الشطرنج على يد حارسٍ صموت فى قبو ملجأ الأيتام. يمضى بنا النص لإيضاح معالم رحلة صعود باهرة، حيث تصبح الفتاة اليتيمة، بطلة شهيرة تهزم كبار أساتذة اللعبة فى العالم، وهى تخوض فى الوقت ذاته معركتها الخاصة ضد الإدمان، حيث العديد من التفاصيل الإنسانية مثل ماورد فى الجزء التالى: لم تنم إلا قليلا جدا خلال أول شهرين فى المأوى، تظل بلا حراك، مغمضة جفنيها، وتحاول أن تنام، لكنها تسمع أصوات الفتيات فى الأسرّة الأخرى وهنّ يسعلن أو يستدرن، أو يتمتمن بكلام غير مفهوم أو عندما يظهر ظل إحدى المشرفات المارات عبر الردهة عابرا سريرها ويخيل إليها أنها قادرة على رؤيتها حتى وهى مغمضة العينين. ساعدت الترجمة الاحترافية للنص على أن تنقل للقارئ صورة مطابقة للنص الأدبى الأصلى، حيث كافة الإيقاعات والتشبيهات التى تنقل للقارئ أجواء غلب البطلة اليتيمة الفقيرة، التى تواجه ظروفا صعبة وتحكمات ذكورية، وقد نشأت فى أمريكا الخمسينيات المحافظة، حيث استطاعت أن تحقق أحلامها وتبلغ القمة، بشغفها وجهدها ومثابرتها، وهى المعانى والأحاسيس التى تنقلها الرواية بشكل حى وصادق. «لنجلس إذا ونُصَفِّ أذهاننا، ونوجّه تركيزنا نحو المربعات الأربعة والستين لرقعة الشطرنج» هوالأحساس الذى سينتاب القارئ بمجرد البدء فى التعرف على عالم «مناورة الملكة« التى صدرت عن دار الشروق، حيث نمضى فصلا تلو الآخر لنختبر مشاعر وتفاعلات إنسانية تتعلق بالقدرة الهائلة على تخطى الصعاب، وكيفية بناء مستقبل زاهر على أنقاض ماضٍ بائس. الحوارات الثنائية، أو المحادثات وتبادل الكلام بين شخصين أو أكثر من شخصيات الرواية، منحها تفوقا ملحوظا على المسلسل، وأثبت أن ترجمة الرواية لم يكن مجرد استثمار للنجاح الذى حققته السلسلة المستوحاة من رواية الكاتب الأمريكى والتر تيفيس، فقد تسلحت الرواية بوظائف فنية أدبية أخرى ساهمت فى تسليط الضوء على جوانب أخرى من حياة بطلة القصة «هارمون بيث» لم يُتطرق إليها فى المسلسل، ليجد القارئ بين يديه وجبة روائية دسمة قوامها ترجمة لاتعرف الرتابة. لا وجود للمبالغات أو التنميط فى الرواية، رغم كونها تدور عن قصة تحدٍ وكفاح وصعود، حيث تفردت بتفاصيلها واستعانت بخيال آسر لمؤلفها وترجمة دقيقة للروائى المغربى عبدالمجيد سباطة، حيث بدا الأخير وأنه قد تصدى إلى ترجمة هذا العمل باعتبار ذلك فرصة للتعرف على عالم كاتب متفرّد، له أعمال أخرى لا تقل تميزا عن مناورة الملكة. جاءت النهاية الخاصة بالرواية ملهمة، لتثير أقصى درجات الإعجاب والإرضاء للقارئ الذى طاف وجال مع مختلف فصول ومحطات الرواية، حيث جاء فى ختام الرواية: لقد هزمتهم، لقد هزمت المؤسسة الروسية هزمت لوتشينكو وشابكين ولاييف وأرغمت بورغوف على الاستسلام، بعد سنتين، قد تواجه بورغوف من أجل بطولة العالم، يجب عليها أن تتأهل أولا للفوز ببطولة المرشحين، لكنها تستطيع الفوز بها، سيتم اختيار مكان محايد وستلتقى ببورغوف فى مواجهة مباشرة من أجل مباراة من أربع وعشرين جولة ستكون فى الواحدة والعشرين حينها، لا تريد التفكير فى ذلك الآن أغمضت عينيها وارتخت فى سيارة الليموزين. يذكر أن مؤلف الرواية والتر ستون تيفيس من مواليد 28 فبراير 1928 وتوفى فى 9 أغسطس 1984، وهو روائى أمريكى وكاتب قصة قصيرة، بعد تسريحه، تخرج من المدرسة الثانوية من مدرسة المختبر النموذجية فى عام 1945. التحق بجامعة كنتاكى، حيث حصل على درجتى البكالوريوس (1949) والماجستير (1954) فى الأدب الإنجليزى، وأثناء دراسته هناك، عمل تيفيس فى قاعة البلياردو ونشر قصة عن البلياردو كتبت لصف غوثرى. حضر لاحقًا ورشة عمل كتاب آيوا، حيث حصل على ماجستير فى الكتابة الإبداعية فى عام 1960، درّس تيفيس الأدب الإنجليزى والكتابة الإبداعية فى جامعة أوهايو فى أثينس، أوهايو من عام 1965 إلى عام 1978، حيث تم تعيينه أستاذًا جامعيًا. كان تيفيس عضوًا فى نقابة المؤلفين.