رواية ساحرة تحاول تقصى أثر لوحات «وجوه الفيوم» مع جرعات تشويق مكثفة «شخصيات مرسومة بعناية، تعاين الأماكن نفسها، تواجه عقبات مشتركة، ولكن يفصل بينهما 20 قرنا من الزمان»، داخل هذا العالم الروائى الفريد، أبدعت الكاتبة والروائية رشا عدلى، أحدث أعمالها عن دار الشروق «أنت تشرق.. أنت تضىء»، والتى تتمحور أحداثها حول واحدة من أهم الأعمال الفنية المصرية من العصر الرومانى، المعروفة ب«بورتريهات الفيوم». الرواية التى يمتزج فيها كل ما هو تاريخى، رومانسى، واجتماعى، تتحدث عن رنيم بطلة العمل، التى عانت من طفولة قاسية جدا على طفلة صغيرة كلاجئة بعيدا عن وطنها، ولكنها فيما بعد تنضم لفريق بحثى لمشروع يدعمه عدد كبير من المؤسسات الهامة المهتمة بالأبحاث الفنية، حيث تصبح أحد أكثر المتميزين فى مجالها، مع إصرار بالغ على البحث وراء «وجوه الفيوم» والسر الذى شعرت أنه كامن خلفها. وإذا كان الأدب يتدخل برونقه الإبداعى ليصوغ مناخات العمل الروائى الصادر عن دار الشروق، إلا أن التاريخ يفرض نفسه كأحد العناصر الجمالية والمشوقة، التى نجد معها رشا عدلى وقد قامت بتحليق حقيقى بين حياة أبطالها من القرن الأول الميلادى، ثم القرنين العشرين والواحد عشرين، باقتدار بالغ نعاين أحداثا تاريخية بين أبطال يتراوحوا على الدوام بين: سيرينا ورنيم، أوكتافيوس ومصطفى عبدالمولى، ليوناردوز وعلاء الصواف». تدور الرواية فى تراوح مذهل ما بين القرن الأول مابعد الميلاد، والقرن ال 21، وهو الخط الذى سنسير فيه مع بطلة العمل، التى نشعر معها بأن كل من تعرض لظلم أو قهر قادر على أن يعود وأن يشرق ويضى؛ حيث كانت البطلة ابنة لأسرة عانت اللجوء والشتات، قبل أن تصبح مسئولة بأحد المتاحف الفنية، ثم باحثة عن أسرار تحملها وجوه الفيوم، تفاصيل غامضة ستكون السبب فى عودتها من جديد إلى وطنها الذى غادرته وهى صغيرة. «وجوه الفيوم» مرتكز الرواية ومكمن شغف بطللتها، هى لوحات بديعة مرسومة على ألواح خشبية اكتشف العديد منها داخل عدد من المقابر المنتشرة فى أرجاء مصر، تعود بالتحديد إلى فترة الحكم الرومانى، وكانت الاكتشافات الأولى لهذه الرسوم فى محافظة الفيوم، تبقى من هذه الصورقرابة المائة قطعة تتوزع على العديد من المتاحف الأثرية والفنية فى أرجاء العالم، حيث تضم لوحات الفيوم وجوها لأشخاص بالغين وأطفال ومراهقين من الجنسين، وتشترك فى الأسلوب الفنى ذاته، بنظرة العين المميزة والموجهة مباشرة إلى المشاهد، مع إتقان ساحر فى رسم الملامح والتعبير عن السمات الشخصية لكل وجه. تظهر بطلة الرواية شغفا حقيقيا بتتبع مسار لوحات الفيوم، حيث تقول: «كما تعودت فى الكتابة التاريخية يجب أن أقدم شيئًا جديدًا وبالرغم من أن وجوه الفيوم تعتبر فى حد ذاتها غير معروفة لعدد كبير من الناس والكتابة عنها فهو شىء جديد فى حد ذاته خاصة كعمل أدبى، ولكنى حاولت أيضًا أن أقدم شيئًا مختلفًا، منذ أن اطلعت على هذه الوجوه ووقعت أسيرة لها ولست وحدى، فأى شخص سيرى هذه اللوحات سينتابه الشعور نفسه، هناك شىء غامض يمنحه لك النظر فى هذه الوجوه. الأمر لا يتعلق فقط بعبقرية وإبداع، أو بأن اللوحات تعتبر أول بورتريه فى تاريخ الفن، ولكن الأمر أكثر من ذلك بكثير، فالكاتبة تظهر رغبتها الحثيثة فى أن تتابع باستمرار نتائج الأبحاث المتعلقة بهذه اللوحات وفى كل مرة كانت الاكتشافات وراءها تذهل بطلة العمل، وهو الأحساس المشترك الذى كان يتولد لدى القارئ بسلاسة وتشويق منقطع النظير. وبالرغم من ذلك كان هناك سؤال دائمًا يتردد فى عقلها، وكانت تنتظر أن تكشف عنه نتائج هذه الأبحاث، وبالرغم من التقدم المذهل فى التقنية المستخدمة فى الأجهزة المستعملة، وخبرة الباحثين، لم يتوصل أحد لتفسير السؤال الذى ظل دائمًا مصدر حيرة لى للجميع، حيث يمتزج لدى بطلة العمل الحيرة والغموض بالجهد والسعى الملموس لفك طلاسم تلك اللوحات والأسرار التى خلفها، حيث تقر بأنه مهما بلغ التطور العلمى، فإنه يقف عاجزا أمام محاولات الكشف عن أقدار ومصائر الشخصيات المرسومة. ربما يسدى التطور التقنى خدمة بأن يحدد لنا تاريخ رسم العمل، أو التنبؤ بمهنة عدد من هؤلاء الوجوه، ولكن إجمالا يظل هناك الكثير الذى لايستطيع أن يخبرنا به، لتصبح تلك الحالة والرغبة فى السعى والاكتشاف، هو الخيط الرئيسى لفكرة العمل وتتشبع منه العديد من الخيوط والأفكار الأخرى. طغت على الرواية لغة رصينة، لم ترتكن إلى العامية، الأمر الذى أضفى الجدية المطلوبة على عمل يتناول قضايا ليست مستهلكة، وإنما متفردة فى بحثها عن أسرار تراثية وأبعاد حضارية، ولكنها ظلت فى مجملها محتفظة بتشويق هائل وإبداع حقيقى، وهو ما نتأكد منه عبر الاقتباس التالى. شعرت أنها تسمعه، تسمع ذلك الصدى الذى يأتى من الماضى السحيق عابرا آلاف الأعوام، تسمعه وهو يرتل، وهو يبتهل، وهو يردد: «يسبح لك الذين فى الأعالى والذين فى الأعماق، لعلك ترضى عنى حتى أرى جمالك، أنت تشرق، أنت تضىء، أنت تشرق، أنت تضىء، كانت تقف على بعد خطوات قليلة منها فى السفينة الملكية، كانت مخلفة لها ظهرها، تراقب الأفق موجهة وجهها للشمس، تسير السفينة بسرعة فى اتجاه اللا مدى، شعاع الشمس يخترق كيانهما، يدفئ ويضيء روحيهما، ويمنحهما الحياة مجددا تسمعها ترتل: «أنت تشرق، أنت تضيء»، وترتل معها، اقتربت منها، اقتربت أكثر، لا شىء يفصلهما، تسمع أنفاسها، تشعر بكيانها، تستشعر وجودها، اقتربت أكثر، مدت يدها تكاد تلمسها. بذلت الروائية رشا عدلى جهدا بحثيا كبيرا فى روايتها، من أجل أن يتضمن النص أكبر قدر من المعلومات الثرية الأثرية والفنية والتشكيلية، وذلك منذ أن انطلقت سريعا بالقارئ فى الصفحات الأولى لتلقى الضوء على أحوال اللاجئين السياسين، ومعيشتهم بعيدا عن أوطانهم ومايكابدوه هناك، ثم رسائل قوية عن أهمية استرداد آثارنا المصرية من الخارج، ثم التركيز على أهمية مدينة الفيوم وكونها مهد لثلاث حضارات وحتمية جعلها مزارا سياحيا عالميا يليق بما تحمله بين طياتها من كنوز فنية وأثرية وتراثية. روت الكاتبة والمؤلفة سردية بديعة عن الإرادة والأرض والتاريخ والأثر، الحقائق القادرة على أن تظهر ولو بعد فوات الأوان، طغاة الإمبراطوريات القديمة، الأسئلة المتعلقة بالفن وهل يمكن تسليعه وبيعه، والتعامل مع المقتنيات الفنية الفريدة كمواد تجارية يمكن بيعها فى مزادات، أم الأصلح هو صونها بكشف الحقائق وراءها، ومن ثم تعزيز مكانتها والحفاظ عليها. «التماهى بين الأسطورى والواقعى، الخيال والحقيقة، التاريخ والعواطف الإنسانية»، جميعها ثنائيات استطاعت أن تشكل بها رشا عدلى قوام وأركان عملها الإبداعى، مستعينة بتقنية السرد الحر والطليق، واللغة التى تخلو من أى تعقيد، مع توظيف مستمر للمعلومات التاريخية ولمسات الفسلفة وتكثيف الاستدعاء، والغوص فى الماضى تارة، والانغماس فى الواقع بنفس القوة تارة أخرى. وقد أحدث المزيج ما بين الإنسانى والتاريخى والفنى والواقعى، أثرا إيجابيا لدى القارئ، حيث إيقاع سريع يستحوذ على عقل وروح من يطالع النص، فيحرص على أن يعرف ما سيحدث تاليا ليجد نفسه وسط حالة من الإصرار على التهام العمل بالكامل، فى ظل الجرعة المعرفية المكثفة التى لم تخل من إثارة ورسم متقن للشخصيات وإضافة معلومات وأبعاد تاريخية عن وجوه ومومياوات الفيوم، حيث يجد القارئ أن شعورا قويا تولد لديه بضرورة أن يزور تلك الأماكن والمناطق ليتعرف عليها عن قرب، وهو أحد أقوى وأوضح أشكال النجاح والتأثير للعمل الأدبى. الرحلة الأدبية الساحرة التى أبدعتها الروائية والباحثة فى تاريخ الفن رشا عدلى، قد ساهمت بشكل استثنائى فى تعريف القارئ على قيم المصرى القديم ومكامن قوته، والرقى الشديد والنبل الطاغى الذى كان يميز أغلب معاملاته، لتضعه أمام مفارقة فى المقابل عن شخصيات المحتل الرومانى، وسطوته على التاريخ والزمان والقيم الإنسانية، فى مقاربة أشبه ماتكون بين الشر والخير، سينتصر فيها الأخير ولو بعد حين، وهو مانجده فى الاقتباس التالى من الرواية. من معبد قريب صوت يعلو بالصلاة والحمد والتسبيح للإله أتوم رع إله هليوبوليس، والإله توت، وكذلك صلاة شكر لإله الشمس الذى يغمر مصر العليا ومصر السفلى، وابتهالات بالحمد والشكر لإله النيل العظيم، صوت يمنح الشعور بالهدوء والسكينة، قاطعه بوق سفينة متوسطة الحجم وقفت فى الميناء تحمل على متنها عددا كبيرا من العبيد مسلسلين بجنازير ضخمة بهيئة معدمة، تفوح منهم الروائح الكريهة، ملامحهم غريبة أقرب للوحوش الآدمية منهم للآدميين، انظرى، هذا ما يجلبه لنا الرومان، مجموعة من القتلة السفاحين، عتاة الإجرام، يدعونهم فى الأرض لينشروا الفساد والكراهية» رواية أنت تشرق أنت تضئ، للكاتبة رشا عدلى، لم تخرج عن القالب الفنى المميز الذى أبدعت فيه الكاتبة سابقا فى مضمار الاهتمام بالجمع بين الأدب والتاريخ والفن التشكيلى، حيث تمزج بين هذه الأجناس التعبيرية فى سياق أدبى مميز ومختلف، يقوم أسلوبها فى الغالب على رحلة ذهاب وعودة بين فترتين تاريخيتين بشكل تتفاعل فيه أحداث تاريخية مع أحداث الحاضر؛ بحيث تبدو كل الأحداث فى النهاية كخيط ممتد من زمن إلى آخر، وهى تسعى بذلك إلى تقديم قراءة روائية تخيلية تتضمن دعوة لإعادة النظر فى الكثير من المسلمات المثبتة فى الكتب وفى أذهان الأجيال الحالية، بينما انتهت صلاحيتها على الشكل الذى وصلت عليه حاضرا. الجدير بالذكر أن رشا عدلى، روائية مصرية، وباحثة فى تاريخ الفن، لها رصيد أدبى يضم ثمانية أعمال روائية إضافية، وهى: صخب الصمت، الحياة ليست دائما وردية، الوشم، نساء حائرات، شواطئ الرحيل، شغف، على مشارف الليل، آخر أيام الباشا، قطار الليل إلى تل أبيب، فضلا عن كتاب (القاهرة.. المدينة الذكريات) عن فن الاستشراق. وقد اعتادت على أن تحظى أعمالها بالتكريم والتقدير، حيث وصلت روايتاها: «شغف» والتى كانت نقلة فى مسيرتها الأدبية حققت لها الانتشار الواسع، و «آخر أيام الباشا» إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر، وفى الرواية الأخيرة، سعت إلى تغيير كلى للصورة التى رسمها التاريخ عن «محمد على باشا» والتشكيك فى معلومات كانت أصبحت مسلمات عند البعض. وحصلت الترجمة الإنجليزية لرواية «شغف» لرشا عدلى على جائزة بانيبال الدولية 2022، كما وصلت للقائمة الطويلة لجائزة دبلن الدولية للأدب 2022.