نصوص سردية تعكس واقع المجتمع ثقافيا واقتصاديا وسياسيا العمل الأول للمؤلفة والكاتبة رحمة ضياء، إلا أن رواية «النقشبندى» الصادرة عن دار الشروق، قد حققت حالة من النجاح النقدى الكبير والاحتفاء الذى لا يزال يتواصل من جانب القراء، نظرا للمزيج الجيد بين الواقع والخيال، والجانب التخيلى والتوثيقى، فى القالب اللغوى المتماسك، والذى استحقت عليه رحمة ضياء جائزة «خيرى شلبى». ♦ أحداث شيقة «لا أعرف أكثر من أن بطل روايتى أنفق فى طنطا أغلب سنوات عمره، وحين طرقت الشهرة أبواب بيته المطل على ساحة المسجد الأحمدى، رفض أن يغادره وينتقل إلى أضواء القاهرة، مفضلا جيرة السيد البدوى بسبب حلم راوده فى المنام!». قد يبدو للوهلة الأولى أننا أمام عمل بطله الأساسى والأوحد هو المنشد الدينى الكبير «سيد النقشبندى»، إلا أننا نجد أن رحمة ضياء تنتصر منذ البداية إلى نموذج «نصرة» السيدة الموظفة فى هيئة الصرف الصحى، وتمعن فى مناقشة أبعاد حياتها، اعتمادا على زمنين نجدهما يمران على القارئ بالتبادل، حيث زمن النقشبندى فى الماضى، وزمن نصرة فى الحاضر، فتقرر أن تبدأ فى كتابة رواية عن النقشبندى، وخلال رحلة بحثها تسافر إلى طنطا، لكنها سرعان ما تتعرض لحادث يؤدى إلى تغير جذرى لحياتها. لم تتوقف رحمة ضياء عن إحداث «المزيج المتقن» فى كل التفاصيل بجميع أحداث الرواية، سواء بين الماضى والحاضر، الواقع والمتخيل، لحظات الفرح الشديد والحزن القاتم، التوثيق وتقصى المعلومات الصلبة، وبين العوالم الساحرة المتخيلة. نجحت المؤلفة فى أن توظف أدوات قوتها على مستوى السرد والمعالجة الشيقة للرواية، فى أن تعرض التحديات أمام البطلة، التى نشعر بأنها جزء أساسى من قوام أى مجتمع، حيث محاولة التغلب على حصرها فى دور «المرأة المنسية والأم الفاشلة»، التى تقف على مشارف عقدها الرابع، دون تحقيق إنجاز يذكر، لتقرر أن تزيح ذلك الركام، وتعاود المداومة على شغفها القديم «الكتابة» للإجابة عن عديد من الأسئلة الحائرة. وبمجرد أن تبدأ «نصرة» ذلك من خلال تتبع رحلة «النقشبندىس، يعاندها القدر فى أول خطوة فى رحلتها بمدينة طنطا لتتعرض إلى حادث، ولكنه سيصبح إحدى أهم النقلات فى حياتها، وسيكون له السبب فى تغيير حياتها ونظرتها لنفسها وللمحيطين بها. تمزج الكاتبة رحمة ضياء بين الجانب التوثيقى والتخييل، لتقدم لنا جانيا غير مروٍ عن شخصية «النقشبندى» بما يجعلك تتوحد معها فى رحلة مختلفة تحاول الغوص من خلالها فى العوالم الصوفية، ولكنها أيضا تكشف عم المشاعر المنقسمة وتقلبات النفس البشرية. ♦ جهد ملحوظ نجاح رحمة ضياء فى الفوز بجائزة تحمل اسم الأديب الكبير خيرى شلبى، على الرغم من أنه العمل الأول لها، يفصح لنا عن مكامن القوة ونقاط التميز التى يحملها العمل، والذى يبدو من خلاله أن رحمة ضياء قد خاضت رحلة موازية لتلك التى خاضتها بطلة العمل، من أجل الاكتشاف والبحث والتوثيق لكل ما وقعت عليه يداها حول أحد عمالقة الإنشاد فى الوطن العربى «سيد النقشبندى»، وهو ما خرجت لتؤكد عليه الكاتبة، من أن «البحث والتقصى والتتبع» لحياة النقشبندى، قد استغرق منها وقتا أطول من عملية الكتابة فى حد ذاتها، حيث يتبين لنا من بين ثنايا نصوص الكتاب، أن هناك خلفيات معرفية لطريقة النقشبندى وإلماما بحواراته الصحفية والإذاعية، وحديثه عن الصوفية وعلاقاته اللافته مع رموز الفترة التى عاش بها. وقد استطاعت رحمة ضياء من خلال روايتها، وبتكثيف جهدها البحثى، أن تضعنا فى القلب تماما من فترة احتشدت بها معطيات التطور والمستجدات التى طرأت على البلاد فى أحوال السياسة والثقافة والاقتصاد وغيرها من الأبعاد التى نلمسها من خلال قصة تم نسجها بعناية، لتكون بمثابة صورة كاملة عن «بطلة منسية، ومنشد كبير». ♦ الأسلوب المميز «فى بحور الصحون والملابس المتسخة التى لا ينضب معينها.. لم يكن لدى رفاهية الاكتئاب والاستلقاء فى السرير فى غرفة مظلمة، ولو ليوم واحد. هل يمكن بعد ذلك أن أستيقظ والابتسامة تعلو وجهي؟! وهل يحق لهم أن يلومونى على عبوسي؟! فى نهاية العام الماضى، اختارتنى مجلة «نساء من مصر» واحدة من 50 سيدة ملهمة فى مصر؛ لفوزى بلقب الموظفة المثالية على مستوى الوزارة، ولكونى زوجة وأمًّا لولدين متفوقين دراسيا.. كنت أود لو أرسل إليهم رسالة اعتذار عن عدم قبول تكريمهم الكريم؛ ففى الوقت الذى وصلنى فيه الخبر، كنت أجلس على أرض الحمام أبكى فشلى فى كل جوانب حياتى.. فشلى كزوجة وكأمٍ وصديقة». «إحكام لغوى واضح، يمزج الواقع بالخيال بطريقة مقنعة على الصعيد الفنى» هكذا كانت الحيثيات التى اتفقت عليها لجنة ضمت قامات من رموز العمل الثقافى والإبداعى، لمنح جائزة خيرى شلبى إلى رواية «النقشبندى»، حيث رأت اللجنة أن النص كاشف كذلك عن جهد كبير بذلته الكاتبة خلال مراحل البحث وعبر التناول الفنى المتميز لشخصيات العمل، قبل أن تشيد بمستوى اللغة المستخدم فى الرواية، والذى كان له أبلغ الأثر فى بناء سيرة للمنشد الصوفى الشهير، الشيخ سيد النقشبندى وهى سيرة لم يتم تناولها من قبل. اتسمت الطريقة التى صاغت بها رحمة ضياء فصول روايتها ب«الرشاقة الشديدة»، والانسيابية فى التعبير عن مواقف ولحظات إنسانية من النجاح المبهر أو الانكسار الحزين، تجارب السعى والكفاح ومحاولة تغيير الواقع، الإحساس بمرارة الفشل، أو لحظات التجلى فى محاولة هزيمة التحديات التى تحيط بنا، وكلها مشاعر لم تكن لتصل مباشرة إلى عقل وقلب القارئ، دون «أسلوب مميز» فى سرد الأحداث يجمع بين اللغة العربية السليمة، والاستخدام المثالى للتوصيفات والمجازات والتشبيهات. ♦ وحدة النص «تلقى الشيخ سيد دعوة مكتوبة لحضور حفل خطوبة لبني السادات كريمة الرئيس محمد أنور السادات على ضابط الحرس الجمهورى أحمد المسيرى، أعقب تسليمها له اتصال من مكتب الرئاسة يؤكد عليه الحضور وافتتاح الحفل بعدد من الأناشيد الدينية، وفى اليوم المنتظر شهدت حارة القصبى لأول مرة فى تاريخها دخول سيارة سوداء فارهة، ماركة مرسيدس بنز 600 بولمان موديل العام 1968، لم ينزل مصر منها سوى قطعة واحدة، دعست عجلاتها العريضة الحارة كصرصار، وألصق المارة ظهورهم إلى حوائط البيوت أو فروا إلى داخل الأحواش حتى تتسع الحارة الضيقة لمرورها، وأعينهم تتابع فى دهشة وانبهار مرور هذا الوحش ذى الثمانى نوافذ والستة أبواب الذى توقف عند قدمى الشيخ سيد النقشبندى». وعلى الرغم من تفاوت الأزمان والأحداث وتدفق التقلبات على الرواية وأزمانها وأحداثها، إلا أننا لا نشعر بأى ارتباك مع «النقشبندى»، سواء منذ بداية الحروف الأولى بالرواية، والتى حملت مقولة مميزة «عرفت الله بالله، وعرفت ما دون الله بنور الله»، للمتصوف الإسلامى والروحانى أبو يزيد البسطامى، الذى لُقب بسلطان العارفين من أهل القرن الثالث الهجرى، وصولا إلى انتهاء الرواية، ومرورا بكل المحطات الحافلة بالإبداع والسلاسة فى المنتصف من أحداثها. ومن الملاحظ فى تلك الرواية، أن روح التحدى التى تملكت بطلة الرواية «نصرة»، نشعر وكأنها قد استمدتها من الكاتبة رحمة ضياء، التى نسجت فصول وأحداث الرواية، خلال إطلاق شرارتها الأولى فى ذروة جائحة كورونا، وكما كانت الكتابة هى طوق نجاه لبطلة الرواية، كانت صياغة الرواية نفسها طوق نجاة مماثل لرحمة التى تشبثت بخيط من الأمل المنقذ من إحباط أخبار الموت والمرض وانتشار الخوف والذعر بين الناس.