شاهد، أعمال تركيب القضبان والفلنكات بمشروع الخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع    الصين تُبقي أسعار الفائدة دون تغيير للشهر السادس رغم مؤشرات التباطؤ    ترامب يوقع قانونًا لنشر ملفات جيفري إبستين.. ويعلن لقاءً مع رئيس بلدية نيويورك المنتخب    حجبت الرؤية بشكل تام، تحذير عاجل من محافظة الجيزة للمواطنين بشأن الشبورة الكثيفة    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    ترامب يرغب في تعيين وزير الخزانة سكوت بيسنت رئيسا للاحتياطي الاتحادي رغم رفضه للمنصب    أخبار فاتتك وأنت نائم| حادث انقلاب أتوبيس.. حريق مصنع إطارات.. المرحلة الثانية لانتخابات النواب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    تحريات لكشف ملابسات سقوط سيدة من عقار فى الهرم    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    زوار يعبثون والشارع يغضب.. المتحف الكبير يواجه فوضى «الترندات»    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    كيفية تدريب الطفل على الاستيقاظ لصلاة الفجر بسهولة ودون معاناة    فلسطين.. تعزيزات إسرائيلية إلى قباطية جنوب جنين بعد تسلل وحدة خاصة    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    طريقة عمل البصل البودر في المنزل بخطوات بسيطة    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    إصابة 15 شخصًا.. قرارات جديدة في حادث انقلاب أتوبيس بأكتوبر    طريقة عمل الكشك المصري في المنزل    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    مأساة في عزبة المصاص.. وفاة طفلة نتيجة دخان حريق داخل شقة    أسعار الدواجن في الأسواق المصرية.. اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    خبيرة اقتصاد: تركيب «وعاء الضغط» يُترجم الحلم النووي على أرض الواقع    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    بنات الباشا.. مرثية سينمائية لنساء لا ينقذهن أحد    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    مهرجان القاهرة السينمائي.. المخرج مهدي هميلي: «اغتراب» حاول التعبير عن أزمة وجودية بين الإنسان والآلة    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    بوتين: يجب أن نعتمد على التقنيات التكنولوجية الخاصة بنا في مجالات حوكمة الدولة    تأجيل محاكمة المطربة بوسي في اتهامها بالتهرب الضريبي ل3 ديسمبر    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    بالأسماء| إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص وملاكي بأسيوط    فتح باب حجز تذاكر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدورى أبطال أفريقيا    أرسنال يكبد ريال مدريد أول خسارة في دوري أبطال أوروبا للسيدات    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    تصل إلى 100 ألف جنيه، عقوبة خرق الصمت الانتخابي في انتخابات مجلس النواب    أمريكا: المدعون الفيدراليون يتهمون رجلا بإشعال النار في امرأة بقطار    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    قليوب والقناطر تنتفض وسط حشد غير مسبوق في المؤتمر الانتخابي للمهندس محمود مرسي.. فيديو    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السينوغرافيا .. و الامساك باللحظة الشعريّة
نشر في شموس يوم 23 - 07 - 2018

اضاءة ل قصيدة / رحيق المسافات / للفنانة التشكيلية والناقدة والشاعرة / خيرة مباركي / تونس
بقلم : كريم عبدالله / بغداد / العراق 21 / 7 / 2018
بوابة شموس نيوز – خاص
سيبقى الشعر هو اللغة الشاملة والمعبّرة عن الذات الانسانية وستبقى الكلمة هي الكائن الحيّ الذي من خلاله يستطيع الشاعر ان يرسم الواقع عن طريق خياله الخصب وابتكار العديد من الصور الشعرية الزاهيّة واجادة تشكيلها واعادة صياغتها وجعلها ناصعة متوهّجة خالية من الترهّل , وان طغيان المخيلة الخصبة تمنح الشاعر حرية تحطيم اللغة واستغلال طاقاتها الى أبعد حدّ ممكن وبثّ الروح والمشاعر الجيّاشة في القصيدة عن طريق تغريب اللغة وانثيالاتها وتحطيم الوحدات المنطقية والعقلية التي تجعل القصيدة مقيّدة وتتحرك في نظام نمطي رتيب وجعل اللغة ساحرة عذبة .
مما لاشكّ فيه بان حالة التوافق الذهني والحركي ( حركة الاصابع ) عند الشاعر مهمة جدا تتيح له حرية الابتكار والخلق نتيجة لموهبته وحرفيته العالية في صناعة الحدث الدرامي داخل النصّ الشعري , فالشاعر كالموسيقى الحاذق يحتاج الى انامل تجيد العزف بحريّة وعذوبة ويرسم بكلماته صوره المدهشة والمستفزّة عند المتلقي . الشاعر يجب ان يحسب كل شيء داخل عمله الشعري بعناية فائقة , ينظم الاحداث والصور والموسيقى والحوارات والزمان والامكنة داخل فضاء عمله الشعري يبدأ من المفردة واخيارها الصحيح ومكانها المناسب داخل المقطع الشعري ثم دراسة المقطع الشعري ورسمه بدقّة وتكثيفه الى أبعد حدّ ممكن وضغطه كي يتناسب مع المقاطع الاخرى . عليه ان يحسب بدّقة اللقطات المتوهّجة داخل النصّ وكذلك الاصوات وتناغمها مع بعض ويحذف الاصوات النشاز لئلا يرتبك العمل الشعري ويتشتت ويتلاشى . فالسينوغرافيا ( سينو = صورة / غرافيا = رسم ) تعنى رسم الصورة , الشاعر المبدع يستطيع رسم العديد من الصور الشعرية الغريبة والمحطمة للواقع والعزف بجميع الادوات المتوفرة ( المفردات المختارة بدقّة ) وابهارنا , وان يجعلنا نتساءل كثيرا ونتأمل ونؤوّل كل حسب ذائقته وخزينه المعرفي كثيرا ايضا ويمتعنا بمتعة ايما متعة , متعة ترافقنا طويلا لا تنتهي بمجرد الانتهاء من قراءة القصيدة .
يبدو اننا امام خلية نحل ( القصيدة / رحيق المسافات ) عاملات كثيرات لاتكلّ ولا تملّ ( الرمز / الاستعارة / التشبيه / المجاز / والكتابة ) تعمل بعدة اشكال وتقوم بوظيفتها لا لشيء الاّ انتاج وجمع الرحيق ( ايصال المعنى الى المتلقي ) , وخلف هذه العاملات (الرمز / الاستعارة / التشبيه / المجاز / والكتابة ) توجد ( ملكة / الشاعرة ) تراقب الاحداث بعين ثاقبة تجيد فن الهندسة والبناء وتملأ ( المسافات / الفقرات ) بالدهشة وتبعث فيها الاحساس بالجمال واللذة او الاسى وتبعث الفتنة . عند قراءة هذه القصيدة تهبّ علينا نشوة نتشممها من خلال لغتها المغايرة وكلما نتقدّم في القراءة نراها تتوهّج اكثر تذيب الثلوج وتبدد سحب الرماد من الذاكرة , لغة تستفزّ الخيال توقظ في الروح فتنتة تنتصر على كدر الواقع المعاش وتبدد من حولنا هذا الضجيج وتحلّق عاليا حرّة في سماوات اخرى تنبعث مما وراء الحلم .
رحيق المسافات / هذا العنوان الهادىء والمثير في نفس الوقت حيث يفتح افاق التأويل والتأمل العميق عمّا أرادت من خلاله الشاعرة ان تقول وهي تستفتح القصيدة بهذه الاطلالة الجميلة . فكما هو معلوم في اللغة بانّ ( الرحيق سائل مائي سكري تفرزه الغدد الرحيقية التي تتواجد إما على الزهرة أو على الأوراق أو عند التقاء ساق الورقة مع الغصن وهو الغذاء الرئيس للنحل حيث يمتصه من الأزهار ويحمله إلى خلاياه في حويصلة العسل ), وانّ ( المسافة تعنى البُعدْ وايضا المساحة والمقدار وقد تستخدم للزمان , وقد تعني المسافة التي يتركها النحل بين الأقراص الشمعية وأجزاء الخلية الاخرى وذلك للسماح له بالمرور خلالها و قد تستخدم المسافة ايضا للفراغات ما بين مقاطع القصيدة ). هنا لابدّ من الوقوف على قصدية العنوان لانه العتبة الاولى والمدخل المهم للقصيدة , فهل ارادت الشاعرة ان تقول : بانّ هناك مسافات زمنية او مكانية ممتلئة بهذا الرحيق ..؟! . وهل ارادت ان تثيرنا عن طريق هذه العنوان باننا امام خلية نحل صنعت بعناية فائقة وكأن وراءها مهندس محترف ( القصيدة ) ..؟ . ام اشارت الينا بعنوانها هذا الى انّ كل فقرة من فقرات قصيدتها هذه يتكاثر الرحيق بينها وانها ( الشاعرة ) قد كتبتها برحيق الابداع وجمال اللغة ..؟ . كل الاحتمالات جائزة لان العنوان يشير اليها جميعا ويلمّح عن بعيد او قريب الى ذلك . بالتاكيد أرادت الشاعرة ان تقول لنا بانّها رسمت هذه القصيدة رسما دقيقا كخلية النحل وبثّت فيها الرحيق فكان العنوان عبارة عن صورة حسيّة / شمّية / ظرفية / ذوقية , من خلاله اصبحنا نشمّ عطرا ونتحسس جمالا ونعيش في زمن معين ومكان اخر ونحن نتذوق هذا الرحيق المتضوع من بين فقرات القصيدة ..
يا لعيونك حين تتنّفسُني رحيقَ مسافاتٍ
هكذا تبدأ القصيدة / ياااااااااااااااااااا / بأداة النداء للذات الاخرى البعيدة او القريبة / هل هي عملية مناداة ام استغاثة وتعجب / لعيونك حين تتنفسني / صورة مكثّفة مدهشة جدا أنسنت العيون ووهبتها صفة التنفس / وهذا انزياح رائع في اللغة / رحيق مسافات : هنا اعطت لنفسها هذا الرحيق وهذه المسافات التي اشرنا اليها في العنوان .
وأنتَ تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ ..
وأنت / ايها الهنااااااااااااااك / بدأت القصيدة تبوح بمكنوناتها وتخاطب / ال أنت / في لغة مبهرة / تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ .. / ويبدأ العزف وندخل بهدوء الى اجواء القصيدة بهذه الموسيقى العذبة من خلال اشراقة فجر قرمزيّ بديع .
لابدّ من الاشارة هنا بانّ كل مقطع رُسم بعناية فائقة جدا عن طريق لغة مرمّزة رقراقة كالينبوع حُبلى بالكثير من الصور الشعرية الصادمة والمدهشة ان القصيدة تحتضن داخلها الكثير من الالحان والانغام والاصوات / فأعزفُ حنيني ببراعة القحط حين لا تدركني مزنتُك العابرة بعساكر الشوق ../ سيمْفُونيّةً عاصفةً لربيعٍ آيلٍ لسَكْرة ../ ترتّلني لحْنا كلثوميا بصلاَة غائِب ..
نجدّ في هذه القصيدة عنصر حيوي الا وهو الصراح والحوار والحركة لكننا نتلمسه من بعيد حيث تكون الشاعرة تصنعه بحرفية عالية وتجيد تحريكه مستبطنا / فأَبْحَثُ عنّي ..وأتيه في أحْداق النّورِ ../ حين تغْزُوني ابتسامةَ صبحٍ ..أنتصبُ علامةَ استفهامٍ في استخارتي الأخيرة ../ وأنتَ تعْرُج لصَمْتي الأبدي .. تُحْيِيهِ .. / هنا نجد حوارا بين شخصيتين عن طريق لغة مبهرة ومن خلال صور شعرية صيغت بعناية فائقة .
مما لاشكّ فيه باننا امام تدفق لغوي جميل جدا وتشكيلات صورية رسمت من قبل فنان يجيد الرسم بالكلمات وموسيقى طافحة بالجمال والفرح , كلّ هذا استطاعت الشاعرة ان تظبطه وتحسبه بدّقة ختمته ب / أغدا ألقااااااااااك .. / يا لشَوْقي واحْتراقِي في انتِظارِ الموْعِدِ .. / الاصرار والتأكيد على الحضور القوي والنتظر .
هذه كانت عبارة عن اضاءة لقصيدة الفنانة التشكيلية والناقدة والشاعرة / خيرة مباركي , وهي ليست قراءة نقدية فانا لست بناقد وانما سحر القصيدة أقلقني كثيرا واستوقفني طويلا فكان من الواجب ان اقول بحق الجمال والابداع شيئا فكتبت ما كتبت ..
القصيدة
رحيق المسافات
يا لعيونك حين تتنّفسُني رحيقَ مسافاتٍ
وأنتَ تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ ..
فأَبْحَثُ عنّي ..وأتيه في أحْداق النّورِ ،
فرجًا لأسارير طريقِكَ الطويلةِ ..
حين تغْزُوني ابتسامةَ صبحٍ ..أنتصبُ علامةَ استفهامٍ في استخارتي الأخيرة ..
يا أيُّها الإنْسيُّ ، من صبْوَتيْكَ السّادِرتيْن في فجري
تُشْرق فراديسي
وتخطُر في نشوة الضّياء ..
فأعزفُ حنيني ببراعة القحط حين لا تدركني مزنتُك العابرة بعساكر الشوق
ويخضّبُني بمِحْنَة الرُّكُوعِ في
تواضُع الحلم ..
وأنتَ تعْرُج لصَمْتي الأبدي .. تُحْيِيهِ
سيمْفُونيّةً عاصفةً لربيعٍ آيلٍ لسَكْرة
الفُصُولِ فَتَضِجُّ عُطُورُ الشّرْقِ وتغارُ منْ شَذاك
المُتضوّع بأنفاس صباحِكَ
عزْفَ نايٍ بعيدٍ ، يُفيْرُزُنِي
بقداسة المَوانِع ..
أجفانُك المُهلِّلة من بُسْتانك الأخْضرِ
المُخَطّط بانهِمارات الصَّبّ ، تُرْديني طريحَة
الذّكريات المأهولة بسنابلك ..
وحبابُ الهَوَى يُنَرجِسُني سُعْرات وسُعْرات ..
ياااااااا أنتَ .. البعِيد خلْفَ الخرائِط
ارتسمتَ في مرآتي
ملحمةَ شوقٍ عنيدةٍ تنُوخُ في بيادري أشرعةَ هوَى تسيلُ فيه الدُّنَى وتسجُدُ ..
ترتّلني لحْنا كلثوميا بصلاَة غائِب :
"أغدا ألقااااااااااك .."
"يا لشَوْقي واحْتراقِي في انتِظارِ الموْعِدِ "
شعر خيرة مباركي .ديوان " مخاض الأشرعة "
ساك باللحظة الشعريّة
اضاءة ل قصيدة / رحيق المسافات / للفنانة التشكيلية والناقدة والشاعرة / خيرة مباركي / تونس
بقلم : كريم عبدالله / بغداد / العراق 21 / 7 / 2018
سيبقى الشعر هو اللغة الشاملة والمعبّرة عن الذات الانسانية وستبقى الكلمة هي الكائن الحيّ الذي من خلاله يستطيع الشاعر ان يرسم الواقع عن طريق خياله الخصب وابتكار العديد من الصور الشعرية الزاهيّة واجادة تشكيلها واعادة صياغتها وجعلها ناصعة متوهّجة خالية من الترهّل , وان طغيان المخيلة الخصبة تمنح الشاعر حرية تحطيم اللغة واستغلال طاقاتها الى أبعد حدّ ممكن وبثّ الروح والمشاعر الجيّاشة في القصيدة عن طريق تغريب اللغة وانثيالاتها وتحطيم الوحدات المنطقية والعقلية التي تجعل القصيدة مقيّدة وتتحرك في نظام نمطي رتيب وجعل اللغة ساحرة عذبة .
مما لاشكّ فيه بان حالة التوافق الذهني والحركي ( حركة الاصابع ) عند الشاعر مهمة جدا تتيح له حرية الابتكار والخلق نتيجة لموهبته وحرفيته العالية في صناعة الحدث الدرامي داخل النصّ الشعري , فالشاعر كالموسيقى الحاذق يحتاج الى انامل تجيد العزف بحريّة وعذوبة ويرسم بكلماته صوره المدهشة والمستفزّة عند المتلقي . الشاعر يجب ان يحسب كل شيء داخل عمله الشعري بعناية فائقة , ينظم الاحداث والصور والموسيقى والحوارات والزمان والامكنة داخل فضاء عمله الشعري يبدأ من المفردة واخيارها الصحيح ومكانها المناسب داخل المقطع الشعري ثم دراسة المقطع الشعري ورسمه بدقّة وتكثيفه الى أبعد حدّ ممكن وضغطه كي يتناسب مع المقاطع الاخرى . عليه ان يحسب بدّقة اللقطات المتوهّجة داخل النصّ وكذلك الاصوات وتناغمها مع بعض ويحذف الاصوات النشاز لئلا يرتبك العمل الشعري ويتشتت ويتلاشى . فالسينوغرافيا ( سينو = صورة / غرافيا = رسم ) تعنى رسم الصورة , الشاعر المبدع يستطيع رسم العديد من الصور الشعرية الغريبة والمحطمة للواقع والعزف بجميع الادوات المتوفرة ( المفردات المختارة بدقّة ) وابهارنا , وان يجعلنا نتساءل كثيرا ونتأمل ونؤوّل كل حسب ذائقته وخزينه المعرفي كثيرا ايضا ويمتعنا بمتعة ايما متعة , متعة ترافقنا طويلا لا تنتهي بمجرد الانتهاء من قراءة القصيدة .
يبدو اننا امام خلية نحل ( القصيدة / رحيق المسافات ) عاملات كثيرات لاتكلّ ولا تملّ ( الرمز / الاستعارة / التشبيه / المجاز / والكتابة ) تعمل بعدة اشكال وتقوم بوظيفتها لا لشيء الاّ انتاج وجمع الرحيق ( ايصال المعنى الى المتلقي ) , وخلف هذه العاملات (الرمز / الاستعارة / التشبيه / المجاز / والكتابة ) توجد ( ملكة / الشاعرة ) تراقب الاحداث بعين ثاقبة تجيد فن الهندسة والبناء وتملأ ( المسافات / الفقرات ) بالدهشة وتبعث فيها الاحساس بالجمال واللذة او الاسى وتبعث الفتنة . عند قراءة هذه القصيدة تهبّ علينا نشوة نتشممها من خلال لغتها المغايرة وكلما نتقدّم في القراءة نراها تتوهّج اكثر تذيب الثلوج وتبدد سحب الرماد من الذاكرة , لغة تستفزّ الخيال توقظ في الروح فتنتة تنتصر على كدر الواقع المعاش وتبدد من حولنا هذا الضجيج وتحلّق عاليا حرّة في سماوات اخرى تنبعث مما وراء الحلم .
رحيق المسافات / هذا العنوان الهادىء والمثير في نفس الوقت حيث يفتح افاق التأويل والتأمل العميق عمّا أرادت من خلاله الشاعرة ان تقول وهي تستفتح القصيدة بهذه الاطلالة الجميلة . فكما هو معلوم في اللغة بانّ ( الرحيق سائل مائي سكري تفرزه الغدد الرحيقية التي تتواجد إما على الزهرة أو على الأوراق أو عند التقاء ساق الورقة مع الغصن وهو الغذاء الرئيس للنحل حيث يمتصه من الأزهار ويحمله إلى خلاياه في حويصلة العسل ), وانّ ( المسافة تعنى البُعدْ وايضا المساحة والمقدار وقد تستخدم للزمان , وقد تعني المسافة التي يتركها النحل بين الأقراص الشمعية وأجزاء الخلية الاخرى وذلك للسماح له بالمرور خلالها و قد تستخدم المسافة ايضا للفراغات ما بين مقاطع القصيدة ). هنا لابدّ من الوقوف على قصدية العنوان لانه العتبة الاولى والمدخل المهم للقصيدة , فهل ارادت الشاعرة ان تقول : بانّ هناك مسافات زمنية او مكانية ممتلئة بهذا الرحيق ..؟! . وهل ارادت ان تثيرنا عن طريق هذه العنوان باننا امام خلية نحل صنعت بعناية فائقة وكأن وراءها مهندس محترف ( القصيدة ) ..؟ . ام اشارت الينا بعنوانها هذا الى انّ كل فقرة من فقرات قصيدتها هذه يتكاثر الرحيق بينها وانها ( الشاعرة ) قد كتبتها برحيق الابداع وجمال اللغة ..؟ . كل الاحتمالات جائزة لان العنوان يشير اليها جميعا ويلمّح عن بعيد او قريب الى ذلك . بالتاكيد أرادت الشاعرة ان تقول لنا بانّها رسمت هذه القصيدة رسما دقيقا كخلية النحل وبثّت فيها الرحيق فكان العنوان عبارة عن صورة حسيّة / شمّية / ظرفية / ذوقية , من خلاله اصبحنا نشمّ عطرا ونتحسس جمالا ونعيش في زمن معين ومكان اخر ونحن نتذوق هذا الرحيق المتضوع من بين فقرات القصيدة ..
يا لعيونك حين تتنّفسُني رحيقَ مسافاتٍ
هكذا تبدأ القصيدة / ياااااااااااااااااااا / بأداة النداء للذات الاخرى البعيدة او القريبة / هل هي عملية مناداة ام استغاثة وتعجب / لعيونك حين تتنفسني / صورة مكثّفة مدهشة جدا أنسنت العيون ووهبتها صفة التنفس / وهذا انزياح رائع في اللغة / رحيق مسافات : هنا اعطت لنفسها هذا الرحيق وهذه المسافات التي اشرنا اليها في العنوان .
وأنتَ تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ ..
وأنت / ايها الهنااااااااااااااك / بدأت القصيدة تبوح بمكنوناتها وتخاطب / ال أنت / في لغة مبهرة / تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ .. / ويبدأ العزف وندخل بهدوء الى اجواء القصيدة بهذه الموسيقى العذبة من خلال اشراقة فجر قرمزيّ بديع .
لابدّ من الاشارة هنا بانّ كل مقطع رُسم بعناية فائقة جدا عن طريق لغة مرمّزة رقراقة كالينبوع حُبلى بالكثير من الصور الشعرية الصادمة والمدهشة ان القصيدة تحتضن داخلها الكثير من الالحان والانغام والاصوات / فأعزفُ حنيني ببراعة القحط حين لا تدركني مزنتُك العابرة بعساكر الشوق ../ سيمْفُونيّةً عاصفةً لربيعٍ آيلٍ لسَكْرة ../ ترتّلني لحْنا كلثوميا بصلاَة غائِب ..
نجدّ في هذه القصيدة عنصر حيوي الا وهو الصراح والحوار والحركة لكننا نتلمسه من بعيد حيث تكون الشاعرة تصنعه بحرفية عالية وتجيد تحريكه مستبطنا / فأَبْحَثُ عنّي ..وأتيه في أحْداق النّورِ ../ حين تغْزُوني ابتسامةَ صبحٍ ..أنتصبُ علامةَ استفهامٍ في استخارتي الأخيرة ../ وأنتَ تعْرُج لصَمْتي الأبدي .. تُحْيِيهِ .. / هنا نجد حوارا بين شخصيتين عن طريق لغة مبهرة ومن خلال صور شعرية صيغت بعناية فائقة .
مما لاشكّ فيه باننا امام تدفق لغوي جميل جدا وتشكيلات صورية رسمت من قبل فنان يجيد الرسم بالكلمات وموسيقى طافحة بالجمال والفرح , كلّ هذا استطاعت الشاعرة ان تظبطه وتحسبه بدّقة ختمته ب / أغدا ألقااااااااااك .. / يا لشَوْقي واحْتراقِي في انتِظارِ الموْعِدِ .. / الاصرار والتأكيد على الحضور القوي والنتظر .
هذه كانت عبارة عن اضاءة لقصيدة الفنانة التشكيلية والناقدة والشاعرة / خيرة مباركي , وهي ليست قراءة نقدية فانا لست بناقد وانما سحر القصيدة أقلقني كثيرا واستوقفني طويلا فكان من الواجب ان اقول بحق الجمال والابداع شيئا فكتبت ما كتبت ..
القصيدة
رحيق المسافات
يا لعيونك حين تتنّفسُني رحيقَ مسافاتٍ
وأنتَ تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ ..
فأَبْحَثُ عنّي ..وأتيه في أحْداق النّورِ ،
فرجًا لأسارير طريقِكَ الطويلةِ ..
حين تغْزُوني ابتسامةَ صبحٍ ..أنتصبُ علامةَ استفهامٍ في استخارتي الأخيرة ..
يا أيُّها الإنْسيُّ ، من صبْوَتيْكَ السّادِرتيْن في فجري
تُشْرق فراديسي
وتخطُر في نشوة الضّياء ..
فأعزفُ حنيني ببراعة القحط حين لا تدركني مزنتُك العابرة بعساكر الشوق
ويخضّبُني بمِحْنَة الرُّكُوعِ في
تواضُع الحلم ..
وأنتَ تعْرُج لصَمْتي الأبدي .. تُحْيِيهِ
سيمْفُونيّةً عاصفةً لربيعٍ آيلٍ لسَكْرة
الفُصُولِ فَتَضِجُّ عُطُورُ الشّرْقِ وتغارُ منْ شَذاك
المُتضوّع بأنفاس صباحِكَ
عزْفَ نايٍ بعيدٍ ، يُفيْرُزُنِي
بقداسة المَوانِع ..
أجفانُك المُهلِّلة من بُسْتانك الأخْضرِ
المُخَطّط بانهِمارات الصَّبّ ، تُرْديني طريحَة
الذّكريات المأهولة بسنابلك ..
وحبابُ الهَوَى يُنَرجِسُني سُعْرات وسُعْرات ..
ياااااااا أنتَ .. البعِيد خلْفَ الخرائِط
ارتسمتَ في مرآتي
ملحمةَ شوقٍ عنيدةٍ تنُوخُ في بيادري أشرعةَ هوَى تسيلُ فيه الدُّنَى وتسجُدُ ..
ترتّلني لحْنا كلثوميا بصلاَة غائِب :
"أغدا ألقااااااااااك .."
"يا لشَوْقي واحْتراقِي في انتِظارِ الموْعِدِ "
شعر خيرة مباركي .ديوان " مخاض الأشرعة "


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.