الآن، هنا، عند هذه الساعة العالقة بين السهر والليل، أمام هذه الشاشة البيضاء، ماذا أفعل وماذا أنتظر؟ بعد نهار شاقّ من العمل مع أولاد يبحثون عن لغة، ومع لغة تبحث عن ناطقين بها، كيف يكون لهذا العالم الوهميّ الافتراضيّ دورٌ وأنا أخطو بسكينةِ من لا تريد شيئًا نحو عمق النصف الثاني من حياة لا أعرف سوى أنّها كانت تستحقّ أن تعاش؟ في عالم يكفي أن ينقطع التيّار الكهربائيّ فيه كي يختفي آلاف الأصدقاء والقرّاء، علامَ أراهن؟ في عالم تتجوّل فيه الأرواح الهائمة باحثة عن أوراح هائمة أخرى، كيف خطر لي أنّني سأجد أمانًا؟ في عالم لا يموت فيه أحد، بل يبقى فيه الجميع صورًا تضحك وصفحات لا تطوى، وذكريات لا تسمح لنا بنسيانها، لماذا تركتُني منساقة في دهاليز متاهته مرة بعد مرّة؟ في عالم لا ضجيج فيه… ولكن لا أصوات كذلك! في عالم كلّنا فيه عميان… لا نرى سوى ما يخبرنا به الآخرون! في عالم، لا رائحة فيه ولا عطر، لا لمسة ولا دفء، ولا طعمَ سوى لمرارة الخيبة، ولا كلمة إلّا موعودة بإعجاب عابر… في عالم كهذا، حيث الحبّ وليد الوهْم، والرغبة ابنة الحاجة، والثورةُ نتيجة الانفعال، والموقف أسير العاطفة، ماذا ننتظر كلّنا أن نجد؟ حبًّا؟ وطنًا؟ حريّة؟ أمانًا؟ أم ممَّ نهرب؟ من الوحدة؟ من الخيبة؟ من الألم؟ من العمر؟ ومن أين لنا هذا الإيمان بأنّ الكلمات التي نطلقها في فضاء هذا العالم ستصير أناسًا أو تربطنا بأشخاص، أو تذهب بنا ضحايا تصديقنا كذبةَ وجود روح هائمة أخرى تسبح في رحم هذا الافتراض وتنتظرنا؟ *** سألتني الكاتبة والناقدة مايا الحاج في معرض تحقيق صحافيّ لجريدة الحياة عن علاقة الناس بالتواصل الاجتماعيّ، فكان جوابي الذي خالف آراء كثر: هذه الوسائل يستخدمها المتقدّمون في العمر أكثر من المراهقين والشباب. نعم، هي إنتاج شبابيّ لكنّها الآن تعويض للخائبين، ومسرح للحالمين، وملتقى الذين ضاقت بهم الأرض… وهؤلاء من العجزة والشيوخ بغضّ النظر عن أعمارهم. وليلة بعد ليلة، أكتشف كيف أنّنا، نحن الأرواح الهائمة، نعود إلى كهوفنا، وننزوي فيها لنستحضر أرواحًا هائمة أخرى، أرواحًا معذّبة، ترمي بنفسها في شباك كلماتنا بلا تردّد أو خجل. بل برغبة أكيدة في التعلّق بحبال الهواء المفترض وجوده في قوقعةٍ مذ اكتشفناها تقوقعنا فيها. يا للخديعة الكبرى! هنا حيث يعود الناس من الماضي، وحيث يخون الناس أحبابهم، وحيث يصير الجبان بطلًا، والعاجز قادرًا، والقبيح جميلًا، والقارئ كاتبًا، والمهمّش مُنَظّرًا… هنا حيث يسهل العبور، فتختفي أسماء، وتغيب وجوه، ثمّ يعودون، كلّهم، أصحاب الأسماء والوجوه، ويعاتبون، ثمّ يختفون، ثمّ يظهرون فجأة… هنا، ماذا نفعل سوى أنّنا نوهم أنفسنا بأنّنا نكمل حياكة الشرنقة لعلّنا نصير فراشات… ونتناسى أنّ الفراشات لا تخرج من الكهوف… ماري القصّيفي – الجدار الخامس (قيد الإعداد)