د. أحمد عبد الهادى معقولة ؟ ... أطول بناء عرفه الإنسان فى التاريخ وأشهر مزار سياحى فى العالم لن يحتاج لأكثر من نصف ساعة لاكتشافه ؟ إيه الكلام اللى بيقوله صديقنا يانج ده ؟ ... الطقس هنا رغم الشمس المشرقة صقيع جدا.. لكن الغريب فى الأمر أن عشرات من الشباب الصينى يتسلقون المبنى أمامنا وهم مشمرين عن سواعدهم بملابس خفيفة.. والأغرب أن جميع من فعل شاركهم نفس الأمر.. ملابس خفيفة.. وقبل أن أسأل الأصدقاء جميعا من المرافقين سواء كانوا مصريين أوعرب هل يمتلكون نفس الدهشة التى امتلكتها فور سماعهم كلام صديقنا يانج المترجم اكتشفت أنهم تركوا الدنيا كلها وإنشغلوا فى مناقشة الأوضاع العربية ووصولهم فى المناقشة لقمة الحدة والغضب والتلاسن ومحاولة توفيق وجهات النظر .. والنبى ده كلام ؟ ... عايزين يقربوا وجهات نظرهم هنا أسفل سور الصين العظيم.. أعظم بناء بشرى عرفه التاريخ ؟ .. هنا ... فى المكان ده ؟ ... قبل أن يكتشفوا حتى المكان ؟ صرخت فيهم : ياحاج انت وهو ... إنتم بتتكلموا جد ؟ دققت النظر فى فتاة صينية كانت تمر بجوار تجمعنا ويبدو أن اللكنة العربية استوقفتها.. ضحكت قائلا لها مدركا أنها لن تفهم كل حرف أقوله : يرضيك كده ياحاجة والنبى ... ؟ توقفت الفتاة وقالت ضاحكة : لاطبعا مايرضنيش يانهار إسود ياجدعان البت طلعت بتتكلم عربى ضحكنا جميعا ... وقلت لهم وأنا أهرول ناحية بداية السور : فضحتونا فى بلاد الله ... أنا ماشى وسايب لكم خلافاتكم السياسية حد جاى معايا ؟ طيب إذا كان هذا السور نجح فى أن يوفق بين الممالك المتناحرة فى الصين عقب تشييده فهل يأتى العرب لهنا ويتناحروا ويتمزقوا فرقا وشيعا ؟.. أمسكت بالكاميرا وهرولت مثل الطفل لأبدأ رحلة صعود السور.. نحن هنا فى منتصفه تقريبا.. السور يمتد خلفنا عشرات الكيلومترات ويرتمى أسفل أقدامنا ثم يصعد لأعلى الجبال ويتلوى معها.. لقد جاء هذا السور بالفعل تعبيرا عن اسم الصين وشعبها.. إنه مثل تنين خرافى قادم من قلب أساطير هذا البلد .. ترتفع الجبال فيرتفع معها.. تنبسط الأرض فينخفض معها بلاتردد.. جزء منه من الصخور.. وجزء آخر من الخشب المدعوم.. هو جاء خير معبر عن البيئة التى يسير فيها.. فى ظل حالة التناحر والحروب بين الممالك بدأ العمل به في أول القرن الرابع قبل الميلاد على الأرجح، واستمر حتى بداية القرن السابع عشر الميلادي. أمسك بالكاميرا وأهرول مثل الطفل بين شباب الصين الذين جاءوا من كل المدن والمناطق لإكتشافه هم أيضا.. هم أكثر عددا من كل السياح الذين جاءا من كل أنحاء العالم.. حيث تقول الإحصائيات الرسمية أن هناك 13مليون سائح زاروا هذا المكان منذ افتتاحه رسميا عام 1954.. وهناك 400 شخصية عامة ورئيس دولة زاروه من أمثال نيكسون وريغان وبوتين ومانديلا وشوارزينجر وبيليه وعدد الزوار يتزايد يوميا .. ورغم قدمه وإسطوريته وذيوع صيته إلا أن تميزه يأتى أيضا أنك إذا زرت العاصمة بكين فبامكانك وعلى مبعدة يسيرة من وسط العاصمة الصينية أن تزوره وتشاهده وتستمع به.. السور اشترك فى تشييده مليون ونصف المليون جندى ومدنى وليس هناك مواد بعينها تم تشييد السور منها ففى المناطق الصحراوية مثلا تم تشييد السور من مواد مكونة من الصفصاف نظراً لشح الصخور والطوب الأصفر.. أما في مناطق هضبة التراب فبني بالتراب المدكوك أو الطوب غير المحروق لكنه لا يقل متانة عن السور غربي الصين وتوجد قناة لتصريف المياه والأمطار بشكل تلقائي على قمة السور التي تتيح للزائر رؤية أجمل المناظر الطبيعية معطية فرصة للتأمل والصفاء الذهني.. وتعتبر أبراج الإنذار جزءا هاما أيضا من مكونات الدفاع لسور الصين العظيم .. حيث استخدمت مرافق لإرسال ونقل معلومات عسكرية. واستفيد منها منذ بداية بناء السور بصورة جيدة بل كان يتم إكمالها تدريجيا لتصبح أفضل أسلوب لإرسال ونقل المعلومات العسكرية في العهود القديمة.. وكان أسلوب نقل المعلومات عبارة عن إطلاق الدخان نهارا وإشعال النار ليلا. إذ يمكن معرفة عدد الأعداء من عدد المواقع التي انطلق منها الدخان أو أشعلت فيها النار حيث يدل كل موقد مثلاً على حوالي 100جندي أو أكثر. ويمر سور الصين العظيم بتضاريس جغرافية مختلفة ومعقدة حيث يعبر الجبال ويخترق الصحراء ويجتاز المروج ويقطع الأنهار. وللسور قصة تحكي ذكاء الصينيين القدماء وعظمتهم فهو أطول بناء في التاريخ على الإطلاق . شُيّد كله يدوَّيا ... تخيل !! وتبدأ حكايته عند مملكة تشو بجنوب الصين التي كانت تبني سوراً دفاعياً لها بغرض التصدي لهجمات القبائل البدوية الشمالية والأعداء من خارج الحدود. بعدها بدأت ممالك تشي ويان ووي وتشاو وتشين تبني أسواراً لنفس الغرض في أماكن متفرقة من الصين ليأتي الإمبراطور تشين شي هوانغ أول امبراطور لمملكة تشين ليوحد تلك الممالك ويكلف الضابط الكبير منغ تيان بإرسال حملة ضد قبائل الهون من المغول ويصل الأسوار التي بنتها كل مملكة ببعضها ليتشكل في النهاية سور الصين العظيم الذي شاركت في بنائه وترميمه أكثر من عشرين مملكة وأسرة في تاريخ الصين. ويبلغ الطول الإجمالي للسور الذي بنته كل الأسر الإمبراطورية خمسين ألف كيلو متر .. يقول الصينيون إنه إذا استخدم الطوب المبني به في تشييد سور سمكه متر وارتفاعه 5أمتار من الممكن أن يطوق الكرة الأرضية أكثر من مرة .. أما عن بقايا السور فلم يتبق منه اليوم سوى ثلثه فقط . التقط عشرات الصور للسور وأبراج المراقبة.. تجذبنى فتاة رائعة ترتدى بلوزة خضراء وشعرها ينساب فى الهواء الشديد بنعومة غير عادية.. تتوقف فأتمكن من تصويرها.. شباب الصين متحمس جدا لوطنه.. هو يعطيك الفرصة لتصويره إذا أردت.. وإذ لم ترغب فى ذلك فهو يسعى جاهد لكى يسجل لك لحظات تاريخيه وهو بجوارك لينشرها على صفحاته الخاصة على الإنترنت ليؤكد للعالم أن الجميع يسعى لتراث وتاريخ وطنه.. ما إن انتهيت من تصوير الجميلة الخضراء.. حتى أجدنى أتصبب عرقا مثل الكثيرين حولى من شباب الصين.. رغم الصقيع الذى يكاد يجمد أطرافك من حولنا.. الآن فقط عرفت السبب الذى جعلهم يخلعون ملابسهم ويكتفون بالخفيف منها.. وبعد مئات الكيلومترات التى قطعتها أعلى إكتشفت أننى لم أبعد كثيرا عن القاعدة التى منها انطلقت حتى أن الأصدقاء المصريين والعرب بدأوا فى الصعود خلفى.. أجلس بين عشرات من شباب الصين الذين شعرت بهم يتوددون ويقتربون ناحيتى بتأنى واضح مثل القطط التى تموء توددا إليك.. أعرف رغبتهم فأطلب منهم الجلوس بجوارى فيأخذون عشرات اللقطات وأبادلهم نفس الصور.. وأسعى جاهدا لدى أصدقائى المصريين والعرب ممن أدركوا المكان الذى جلست فيه حتى تبادلوا معهم الصور أيضا .. أدقق النظر فيهم.. سبحان الله ... هؤلاء الشباب هم فعلا خير خلف لخير سلف.. فتاريخ الصين لم يأت من فراغ.. وعبقرية الحاضر التى إنتهت بسيطرة الصين على العالم اقتصاديا كانت نتاج هذه التاريخ.. نفس هذه العبقرية التى شيدت مثل هذا السور العظيم الذى نجلس فوقه الآ.. فعبقرية السور لم تأت أبدا من مجرد عملية التشييد التى تحدت عوامل الزمن والطبيعة فقط.. ولم تأت من أن الصينيين تفتقت عبقريتهم غير العادية فى ابتكار وسائل وآليات لتقوية وتثبيت أحجار السور عن طريق استخدام حساء الأرز فى بعض الأماكن مما جعله صلبا ومنيعا بل جاءت من كون بناء هذا السور جاء تعبير عن أخطر مشروع دفاعى ونظام قيادى عسكرى متكامل لم ينتبه له الكثير من السياح الذين يزورونه .. وسأحكى لك مثالا بسيطا.. ففى عهد أسرة مينع الملكية مثلا كان هذا السور الذي يبدأ من نهر يالوه شرقا وينتهي عند ممر جيا يو قوان غربا وبلغ إجمالي طوله 7000 كيلومتر ينقسم إلى تسع مناطق إدارية عسكرية، ولكل منطقة رئيس تنفيذي لإدارتها بصورة منفصلة ومسؤول عن إصلاح السور داخل المنطقة وترميمه وهو مسؤول أيضا عن الشؤون الدفاعية في المنطقة أو مساعدة المناطق العسكرية المجاورة على شؤونها الدفاعية وفقا لأمر وزارة الدفاع الوطنية.. وكان عدد الجنود المرابطين على خط السور في عهد أسرة مينغ الملكية بلغ حوالي مليون جندي . المسألة إذن ليست مجرد مبنى تصور الكثيريين أن عبقريتة تأتى من عملية البناء فحسب.. بل هو دليل مؤكد على عبقرية العقلية التى قامت بتشييده .. كما أنه دليل على الإرادة التى وصل لها أجداد هذا الشعب العظيم الذين أصروا على استكمال عملية البناء رغم التحديات الطبيعية التى واجهتهم ... فسور الصين يمر بتضاريس جغرافية مختلفة ومعقدة حيث يعبر الجبال والأجرف ويخترق الصحراء ويجتاز المروج ويقطع الأنهار.. أقول لك على حاجة كمان لم تكن فى حسبان سيادتك أنت وكل السياح الذين زاروه عن قرب أوسمعوا عنه أوقرأوا عنه.. إن هندسة هذا السور لاتؤكد على العقلية العسكرية الخطيرة التى إمتلكها أجداد الشعب الصينى فحسب.. بل به دليل آخر على العبقرية العلمية الجغرافية أيضا.. فاتجاه السور متطابق تقريبا مع الخط الفاصل بين المناخ شبه الرطب والمناخ الجاف في الصين وعندما تم تشييده أصبح بمثابة خطا فاصلا بين المناطق الزراعية والمناطق البدوية.. أما عن السور نفسه فهو ليس مجرد سور واحد فقط بل هو سورين المسافة بينهما حوالى عشرة أمتار وفى الوسط درجات من أحجار الجرانيت الصخرية وعرض كل سور منهما حوالى متر كاملا.. كل سور يمتد من أرضية الجبال الواقف فوقها لعنان السماء حوالى سبعة متر بينما هو من الداخل غير مرتفع بسبب وجود درجات الجرانيت المرتفعة .. وكل عدة أمتار تجد برج مراقبة ... البرج شاهق فى الهواء أعلى من السور.. وبه فتحات للمراقبة والدفاع ... لكل ذلك كان لابد من أن نواصل رحلة إستكشاف السور من أعلى... وقال صديقنا محمد الجباوى خفيف الظل معترضا على مواصلة الرحلة : يا إخوانى السور هنا زى السور اللى هناك ولوح ناحية السور من أعلى .. فرد عليه نصر الحريزى : آه إنت أعلنت إفلاسك من من بدرى ؟ يا حبيبى الله يسعدك من بدرى إيه ... داحنا بقالنا خمسة ساعات نواصل الصعود ونظرت فى ساعتى إكتشفت أنه لم يمر علينا سوى أكثر من نصف ساعة فقط ... والله عندك حق يانج لما قال لنا نصف ساعة تكفى ليه عنده حق ؟ أصله السور هنا زى السور اللى هناك كله حتة واحدة وبالفعل ... السور الذى تصل له لن يختلف عن السور الذى تصل له فى أى منطقة يتلوى فيها.. هو.. هو.. نفس الشكل ... نفس الهندسة المعمارية والمقاسات.. المسافات الصاعدة أعلى.. ولايختلف شىء عن بقية السور الممتدة عبر الأميال الأخرى سوى نوع مواد البناء التى تتفق وطبيعة البيئة التى يمتد فيها السور.. وبدأنا رحلة الهبوط.. الغريب فى الأمر أن الهبوط كان قاسيا للغاية وهو أمر بالفعل أدهشنا أما السبب فلأن درجات السور الموجودة بين السوريين الممتدين فى الهواء عالية وليست منبسطة بما يسمح للشخص بالنزول مستريحا.. ولكى تهبط لابد أن تمسك بشئ يسند جسدك حتى لاتسقط .. يا أولاد الإيه عشان كده وضعوا حديد على جوانب السور قالها صديقنا رائد إبراهيم وهو يلوح لنا ناحية الحديد الممتد بامتداد السور.. والذى رأينا بالفعل أن كل شباب الصين يمسك به وهو فى طريقه للنزول بما يحافظ على تماسك الجميع من السقوط .. والحديد الموضوع على جانبى جدران السور بمحازاة منتصف الجسد موضوع حديثا بعد أن إشتكى كثيريين من سقوطهم أثناء الهبوط من أعلى السور للأسفل.. وهبطنا فرادى خلف بعضنا.. فقد كانت رحلة الهبوط بالفعل أصعب من الصعود ... وتجمعنا فى القاعدة التى انطلقنا منها .. وانتبهنا لوجود عشرات المحلات الموجودة والتى تبيع قطع التحف والصور التى تعبر عن الصين.. وتعبر عن بناء هذا السور .. وعندما تجمعنا فى السيارة كان الجميع يضحك.. ويتندر بالمواقف التى حدثت.. دققت النظر فى وجوههم .. قدموا وهم مختلفى وجهات النظر وعادوا معا يضحكون.. إنها إحدى مآثر سور الصين العظيم الذى نجح أيضا فى توحيد صفوف العرب ... -------------------------------------- من كتاب إلى الصين سيرا على الأقدام تأليف : د.أحمد عبد الهادى