هناك بعيداً ....بعيداً في أقصى الصعيد الجواني حيث تقبع بلادي وفي زمان بعيد وليس ببعيد إذا ما قورن بعمر الزمان عندما ولدت في تلك الايام كانت بلادي تودع عصر الصفاء والطيبة وتستقبل الأيام الخداعات عشنا سنوات من أعمارنا في زمان الود والصفاء وتكدرت الايام وراحت الوسائل العصرية تغزونا بلا رحمة أو هوادة وراح الناس يلهثون خلفها لهاثاً محموماً بدعاوى التمدن والتحضر . وقد كانت البداية مع التلفاز والذي لم يكن كما هو عليه اليوم بل كان قاصراً على قناتين فقط الأولى والثانية وكان البث محدداً بساعات معينة وفعلاً أنا أعتبر أن دخول التلفاز كان بداية التحول في بلادي البسيطة من عصرٍ إلى عصرٍ مغاير تماماً فقد عمل القائمون على هذا الجهاز الخطير على تغيير وتزييف العقل الجمعي للأهالي البسطاء بإذاعة مسلسلات تزيف الواقع وتقلب الحقائق وأفلام تنشر ثقافة العري والعهر في مجتمع بسيط ومحافظ فهجر الناس الإذاعة بما تقدمه من برامج هادفة وجميلة وتركوا القراءة والكتب وعزفوا عن المنتديات والتجمعات في الدواوين وتخلوا عن ممارسة الفنون الفلكلورية مثل ( الحكواتي وغيره ) والألعاب القديمة مثل ( الحجلة - وحنك الدنك - والأيسرو - والبلابيصة - الأستُغُماية ...... إلخ ) فتعلم الناس السهر حتى بعد منتصف الليل أمام الشاشات بمختلف أنواعها ومقاساتها لدرجة أنك ربما تجد عدة افراد يجلسون في غرفة واحدة ولكن كلٌ منهم في وادٍ غير الآخر وربما لا يدور بينهم حديث لأوقاتٍ طويلة ووجدنا الناس لا يستيقظون إلا في وقتٍ متأخر من النهار وتأثرت الحياة الإجتماعية والإقتصادية تبعاً للحياة الثقافية . وأصبحنا نرى كثيراً من المزارعين وقد هجروا أراضيهم إما بالبيع والنزوح للمدينة أو بالإيجار وتبدلت حياة المزارع البسيط فما عاد يوفر لنفسه البيض واللبن والجبن والزبد بل والبعض لم يعد يصنع الخبز لنفسه وراح يشتري كل ذلك من المدينة وأدى هذا لتغير الخريطة الاقتصادية للناس في بلادي البعيدة خاصة وأن الوسائل الغازية تعددت ولم تعد قاصرة على التلفاز بل استدعى ذلك الجهاز بقية إخوته ( الفيديو - الأتاري - البلاي ستيشن .... إلخ ) إلى أن تطور إلى ما هو أشد فتكاً وهو القنوات الوبائية التي اجتاحت كل شيء ولم تراعي لأي شيءٍ حرمة ولم ترعى فينا ذمة . وتسارعت وتيرة الغزو وجاء بقية الغزاة ورمونا بأشد جندهم فتكاً وضراوة وهو الإنترنت والهواتف النقالة التي راح يستخدمها الناس أسوأ استخدام ويستغلونها أقبح إستغلال في ظل تغير الخريطة الثقافية فوجدنا أن من يسيء استخدام تلك الوسائل أكثر ممن يحسنون الاستخدام ووجدنا صغاراً يدمنون تلك الوسائل وهم لا يدركون فوائدها من أضرارها وأميون يحملونها وهم كالحمار يحمل أسفاراً . وربما يقول قائل بأن تلك الوسائل هي من مظاهر التطور الحتمي والتمدن اللازم وإن لم نستخدمها سنكون متخلفين عن ركب التطور وهذا قول مردود عليه بأن الغرب استخدموا كل تلك الوسائل بل هم من اخترعوها وصدروها إلينا ولكنهم استخدموها كما يجب أن تستخدم ووظفوها فيما يجلب النفع والفائدة بحكم علمهم بأضرارها ومجالات نفعها كما أنني لا أقول بعدم استخدام تلك الوسائل نهائياً أو مقاطعنها كلياً وإنما من الحتمي والضروري أن نبحث عما يخدم مصالحنا ونستخدمه ونستوعب مضارها ونتجنبها . ... ونسأل الله السلامة فيما هو قادم .