ليس في الدنيا أتعس من أغني رجل في العالم .. قالها أغني أغنياء العالم ! وهو لايريد أن يثير شفقة أحد عليه .. فليس هذا ممكنا .. فالقلوب التي اهتزت بالحقد عليه لن تلين بالعطف عليه .. ولكنه يريد أن يجعل العالم كله شاهدا علي عجزه عن انقاذه من مرض خطير اسمه : الثراء الفاحش ! فهذا الرجل لايجد شيئا .. لأن كل شيء موجود .. فالذي يجد هو الذي يبحث , هو الذي يطلب , هو الذي يأمل ويشتاق ويحن .. وكل هذه الكلمات لامعني لها .. لأنه يملك كل ما يريد .. ولأنه ليس في حاجة الي أنه يقول أو يشير .. فرغباته معطلة وأطرافه مقطوعة أو كأنها مقطوعة لأنها بلا ضرورة ! وهو لايجد الصدق ولايجد الكذب ولايجد الحب ولايجد الكراهية .. فكل شيء رهن اشارته .. او انه ليس في حاجة الي اشارة .. ولم يكن كاذبا عندما قال في احدي المرات : إن كلماتي التي لها معني هي التي أوجهها لكلبي في الصباح .. إنه في بعض الأحيان يحتاج الي أن أشرح له !! وكما في الدنيا درجات من الثراء والفقر , فهناك درجات من هذا الشعور بالوحدة او الوحشة او العزلة او الانقطاع عن العالم حولنا .. وقد أطلقنا علي عصرنا هذا عشرات الأسماء .. ولكن من بين أصدق هذه الأسماء نقول : إنه عصر الانسان الوحيد .. أي الانسان الذي يجد نفسه وحده بعيدا عن كل أحد .. او أنه مع الناس ,... ولكن الناس في ناحية وهو في الناحية الأخري ! ولكن ماذا؟ لأن الناس كثيرون .. ولأن هموم الناس كثيرة .. ولأن كل واحد يستطيع أن يحمل اناءه علي رأسه وان ينشغل بمتي ينكسر الاناء او يطير من فوق رأسه .. او يطير رأسه أيضا !! انظر الي الناس عند محطة الأتوبيس او المترو .. كثيرون .. وهدفهم واضح .. ولكن وضوح الهدف , لم يعطهم شيئا من الارتياح .. ورغبتهم الموحدة لم تجعل ملامحهم واحدة .. ولا التعبير عنها واحدا .. انظر الي هذه التعاسة علي وجوه الناس الواقفين معا .. الجالسين معا .. المنتظرين معا .. كأنهم عندما يصعدون الاتوبيس ينتقلون من رصيف منخفض الي رصيف مرتفع .. وكأنهم عندما حققوا رغبة الركوب , لم يصدقوا ما حدث , فلاشيء من الارتياح علي وجه أحد .. وكأنهم وهم في داخل الاتوبيس ينتظرون أوتوبيسا آخر !! كأن كل واحد يشعر بالوحدة ويريد أن يكون مع أحد من الناس او آحاد من الناس ولايدري انه ليس وحده .. وأنه مع غيره .. ولكن هذا الوجود مع الغير لم يسحب منه شيئا من القلق .. انظر الي الناس وقد جلسوا امام التليفزيون .. الي الأسرة الواحدة .. لاكلام .. لاعلاقة .. كأنهم يجلسون متجاورين وبينهم جدران من الزجاج تفصل إحساسهم ومشاعرهم .. ولذلك لايسمع أحدهم الآخر .. او لايريد ولايشعر به .. او يزهد في ذلك .. وعندما كتب اديب فرنسا يونسكو يقول : إن الناس يفضلون أن يظهروا علي المسرح حيث الناس كثيرون , ويرفضون الجلوس في الصالة حيث لا أحد . هذه العبارة كان يعني بها ان الناس علي المسرح معا , لأنهم في حوار مترابط ويشعر بعضهم ببعض .. أما المتفرجون وهم كثيرون فلا يشعر أحدهم بالآخر .. إنهم معا في المكان وكل واحد في حاله .. كل واحد مثل بيضة امتلأت واكتفت بذاتها !! وعندما بلغ الانسان أقصي درجات العلم الحديث ما الذي فعله؟ إنه أطلق الصواريخ والسفن الي الفضاء .. ولكن من الذين أطلقهم؟ إنه أطلق عددا من الرجال .. هؤلاء الرجال ينطلقون وحدهم .. ويندفعون بسرعة هائلة نحو الظلام والصمت والموت .. إنها أقصي أنواع الوحدة والوحشة التي عرفها الانسان .. ويكفي أن تتصور أن رائد الفضاء هذا ليس إلا جنينا وضعوه في بطن أم من المعادن .. هذا الجنين لاحول له ولا قوة .. وانما هو يستمد طعامه وشرابه وسمعه وبصره من الأرض .. ان سفينة الفضاء هي هذا السجن الأنيق .. هي هذا الرحم الالكتروني .. وعلي رائد الفضاء أن يقطع الليل والنهار وحده تماما .. وحده يطلع ووحده يهبط الي المحيط .. ووحده يهبط الي القمر .. إن علي الأرض مائة ألف من العلماء يعملون من أجل ان يكون الانسان واحدا وحيدا وحدة مطلقة .. إنهم يعملون من أجل تجريده من الانسانية والحياة الاجتماعية .. فهم يضعونه في الماء البارد والساخن والضغوط العالية والمنخفضة .. وفي مجالات جاذبية وفي مجالات بلا جاذبية .. ويسلطون علي عقله وقلبه ومعدته وأحشائه آلاف العيون .. فإذا أصبح حيوانا آليا تماما .. أطلقوه لخدمة الإنسان .. ككل حيوانات المعامل مثل الكلاب والقطط والفئران .. وأكثر رواد الفضاء مات قتيلا .. أو انسحب أو أصيب بالجنون . لأن هناك درجات لاحتمال الوحدة الموحشة .. ولكن رواد الفضاء تجاوزوا قدرات الانسان الذي هو حيوان اجتماعي بطبعه كما قال الفيلسوف أرسطو من ألوف السنين ! ويوصف هذا العصر الذي نعيش فيه بأنه عصر الطفل اليتيم أو الابن اللقيط .. أي الذي لا يجد والديه عندما يحتاج إليهما .. أو إذا وجدهما فإنهما مشغولان عنه .. فليس اليتيم هو الذي مات أبوه .. ولا اللقيط هو الذي عرف أمه , ولم يعرف أباه .. أو الذي احتضنه أحد الملاجئ فقام المدرسون والمدرسات بدور الأب وأعطوه اسما طبيعيا .. وحذفوا من شهادة ميلاده أنه بلا أب ولا أم .. وإنما اللقيط هو الذي يشعر بأنه غريب في بيته .. وأنه غريب بين إخوته وأنه غريب بين غرباء .. ففي العصر الذي يعمل فيه الرجل والمرأة وفي لحظات الحظ يولد الأطفال , ليس هناك وقت كثير لتربية الأطفال .. وقد يظهر في البيت أكثر من خادم وخادمة .. ولكن الأب ليس هناك .. والأم مشغولة بالبحث عن الأب أو عن بديل عن الأب .. أو شعور بالقرف من كل شيء اشتركت في انتاجه مع الأب . والمجتمع الأمريكي أحسن نموذج لذلك , فالأطفال يفتقدون الأبوة والأمومة .. ولذلك يهربون من البيت .. وينشغلون مع الأولاد والبنات من سن واحدة لتكوين أسر جديدة .. يقوم فيها الابن بدور الأب .. فيعطي لابنه الصغير ما افتقده أو يقوم فيها الزوج الشاب بدور الأب لزوجته الشابة .. وتقوم هي بدور الأم له .. انهم يحاولون أن يعوضوا هذا النقص الهائل في الموارد الطبيعية لقلبي الأب والأم معا .. وليست أساليب الهروب المختلفة في أوروبا إلا محاولة للعثور علي الحنان خارج البيت .. وليست هذه المخدرات إلا وسائل كيميائية لابتكار جنات مزيفة .. فالولد الذي لم يجد الجنة في بيته , فانه يبحث عنها خارج البيت واذا لم يجدها في زوجته , فإنه لا يكف بحثا عنها .. حتي يجدها أو يموت وهو يحلم بها .. والذي يقرأ عن شعراء شباب الهيبز أو الأدباء الصاخبين في أمريكا , والأدباء الساخطين في أوروبا فإنه يجد طريقا واحدا وهدفا واحدا : أين الجنة وأين بابها؟ ولن تعود المرأة الي البيت . ولذلك سوف تحاول أن تكون أما .. وفي نفس الوقت سوف تعجز عن القيام بدور الحضانة أو بدور الحنان .. والحنان هو الحرارة الطبيعية التي ينضج فيها الطفل .. ولا يغني الطفل عن أمه ألف مربية وألف زجاجة لبن وألف لعبة ومليون قبلة من مئات الشفاه .. ولذلك سوف تكون هناك أمهات دائما , وسوف تكون الأمهات محرومات من الأمومة ومحرومات من الطفل . فنحن في عصر هذا الطفل الذي يولد من أبوين لا يجدهما واذا وجدهما فليس عندهما وقت كثير له .. وعلي الطفل أن يقفز من الطفولة الي الرجولة بسرعة .. أي يجب أن ينمو , ويظل طفلا في أعماق أعماقه . ان أحد علماء النفس عندما درس تاريخ هتلر وهو ابن غير شرعي قال إنه لو عرف اللعب وهو صغير ماكانت لعبته ملايين الأجساد البشرية ! ان عددا كبيرا من المجرمين العاديين قد حرموا الأب والأم , ولذلك كان عدوانهم علي كل أب وكل أم أو كل طفل له أب وأم .. صحيح ان عددا كبيرا من اليتامي والأبناء غير الشرعيين قد تفوقوا علي غيرهم من الملايين .. ولكن الشعور الطبيعي عند الطفل المحروم ان يخطف مافي يد الآخرين , إلا اذا أدركته المبادئ الأخلاقية والدينية فمنعته من ان يكون مجرما .. وعدد قليل من الممتازين أحسوا بهذا الحرمان فارتفعوا فوقه .. وكأنهم أرادوا أن يكون ملايين المعجبين بهم , هم ملايين الآباء والأمهات والإخوة .. والأبناء غير الشرعيين الذين لمعوا في تاريخ الإنسانية ففي عالم الأدب والفن : الكسندر ديماس الصغير وبوكاتشيو وأبو لونير ولوي أراجون وجان جنييه والموسيقار فاجنر وزوجته ابنة الموسيقار ليست ودافنشي وسارة برنار وصوفيا لورين وفرانسواز هاردي .. وفي السياسة : هتلر وفيلي برانت وأرنست بيفن وايفا براون وكثيرون غيرهم في الطب والفلك والهندسة . انهم جميعا أحسوا بهذا الشيء الأليم : إنهم وحدهم وأنه لا أحد إلي جوارهم .. ولاحق لهم في أب أو أم . وانهم دون الناس جميعا . فليست لهم بيوت وحرمات . وابواب ونوافذ .. ولايستطيع الواحد منهم ان يقول : عمي وخالي وخالتي .. ولكنهم بعيدون عن الناس وحرموا من ان تكون لهم قرابة أو أصالة أو شجرة أنساب .. أو بيت العائلة . ولكن غريزة حب البقاء تحولت إلي ينبوع عبقري ارتفع بهم من مجرد البقاء إلي التفوق علي الآخرين .. أي الي البقاء أطول واعرض وأعلي من الآخرين .. وفي العصر الحديث لم يعد المجتمع الأوروبي يستنكر الابن الذي جاء من غير زواج .. فلا فرق بين ابن الحلال وابن الحرام فكلاهما ابن .. ولذلك له نفس الحقوق .. ثم لافرق بين الذي له ابوان وبين الذي له أم وليس يعرف أباه .. فنحن جميعا نعيش في عصر لايجد فيه أحد أبا أو أما .. أو اذا وجدهما فهما غائبان بالروح حاضران بالجسد .. فكل الناس سواء : يتامي أو لقطاء .. وهذه هي الحياة الحديثة ولارجوع عنها !! وفي هذا العصر الذي تقدم فيه العلم النظري والتطبيقي انتشرت علي اطراف الصحاري الرملية في أمريكا والجليدية في روسيا وعلي قمم الجبال الأوروبية وفي كهوفها تلك الصوامع البيضاء مكيفة الهواء تلك المعامل التي يعيش فيها العلماء يبحثون .. ان هذه المعامل أشبه بصوامع وأديرة الرهبان والمتصوفين .. ان هؤلاء الممتازين من أبناء العصر الحديث يعيشون في رهبانية علمية .. أو يعيشون في هذه السجون مكيفة الهواء والضوء والضغط .. وتحرسهم الدول كأشد الناس شراسة في الاجرام .. فنحن في عصر الصوامع الالكترونية .. وفي العالم مئات الألوف .. بل ملايين الممتازين يعيشون في هذه السجون الانفرادية من أجل البحث عن الحقيقة .. انهم يعيشون في أقفاص من حديد تشبه أقفاص الأسود والنمور في حديقة الحيوان .. ولهم أرقام ولهم علامات مميزة . وممنوع الاقتراب منهم والذي يقترب منهم تراقبه الدولة وتحسب حركاته . ولكن هذه العزلة إرادية .. أي ان الانسان ارادها لكي يصبح قادرا علي العمل أفضل .. ولن يتمكن من ذلك إلا اذا انعزل عن الناس .. وهو أشد مايكون شوقا إليهم .. ولكن المعادلة صعبة : الكثير من الناس يساوي القليل من العلم , والقليل من الناس يساوي الكثير من العلم .. وقد اختار هؤلاء السجناء الممتازون العلم الكثير .. ولذلك عاشوا بعيدا عن متناول الناس . ثم ان هذه العزلة هي الشرط الوحيد لضمان استمرار البحث واستمرار الحياة .. ففي عالم الحيوان تجد الأنثي تنعزل تماما عن بقية القطيع لكي تلد .. فاذا ولدت ظلت إلي جوار وليدها حتي يكبر .. ثم عاودت حياة القطيع .. فالعزلة مقدمة الولادة وشرط لبقاء المولود .. والذي يفعله العلماء , يفعله الفنانون أيضا .. إنهم ينزلون الي بحر الحياة الصاخب يغتسلون وتمتليء عقولهم وقلوبهم .. فاذا جاءت لحظات الابداع انزووا وانعزلوا .. واقفلوا الأبواب والنوافذ .. وباعدوا بينهم وبين الناس .. انهم يختارون عذاب الوحدة , لأنه شرط الولادة .. مع انهم في نفس الوقت يحبون الآخرين ويحنون الي الناس .. فهم اجتماعيون وهم أزواج وآباء وابناء وأسرة واحدة .. ولكن لابد من الصومعة .. لابد من الحياة عند اطراف الصمت وكهوف الهدوء .. ان المثل الأصدق هو حيوان اللؤلؤ .. ذلك الكائن الضعيف جدا الذي احتمي تحت شفتين من المحار أي من الكالسيوم اللامع .. ان هذا الحيوان عندما يتفتح ليتغذي .. تدخل بعض الأشياء الصغيرة جدا العالقة في الماء الي جسمه الناعم الرقيق في داخل هذه القوقعة .. وهو لايقوي عليها .. فترتفع درجة حرارته ويمرض .. وينطوي علي ألمه .. ويظل يبكي نعم يبكي فهو يفرز مادة اللؤلؤ البيضاء اللامعة حول هذا الجسم الصغير الغريب الذي دخل إليه من البحر .. ثم يبعد عن الشاطيء .. وعن سطح الماء .. ويظل معلقا هادئا كأنه مشنوق .. وتمضي الأيام والشهور والسنوات وهو يفرز ألمه الأبيض الشفاف .. وبعد ذلك تمتد إليه يد انسان تفتح شفتيه وتستخرج من احشائه حبة اللؤلؤ ! هذه الحبة الجميلة التي قال عنها أجدادنا : إنها دموع الملائكة , تحسده عليها كل حيوانات البحر .. تحسده علي حبة اللؤلؤ , وتنسي مرضه ووحدته ووحشته في الماء .. وعجزه عن ان يعيش مثل سمكة أو ينطلق مثل حوت .. وكلنا هذا الحيوان المسكين الذي لاينظر الناس إلا الي الحبة اللامعة التي تخرج من احشائه واحشائنا . اما كيف تكونت ومن أي شيء تكونت وانها نهاية حيوان أفرزها ليموت بعدها , فليس هذا مما يشغل الناس ! .. كل هذا العذاب من أجل ان يموت محسودا من الجميع دون شفقة من أحد .. ولو خيروه وخيروني بين ان اكون مثيرا للشفقة أو مثيرا للحقد , لمددت يدي وأرجلي استدفئ علي أحقاد الآخرين !