" آن الآوان ترحلى يا دولة العواجيز " .. وسط أحداث ثورة 25 يناير 2011 انتشر كالبرق هذا البيت ضمن قصيدة شهيرة للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى أهداها لآلاف الشباب المعتصمين بميدان التحرير خلال ال18 يوماً قبل سقوط النظام السابق، وخلال عامين كان التوصيف الرئيسى لثورة 25 يناير أنها " شبابية " التخطيط والفعل والحركة والتضحية، لكن السؤال الذى يفرض نفسه على أى دارس للثورة المصرية : هل كان يمكن للشباب وحدهم اسقاط النظام السابق لولم يشاركهم كل فئات المجتمع من عمال وفلاحين موظفين ورجال وسيدات .. بل وأطفال وشيوخ أيضاً ؟! أم أن كل هؤلاء كانوا " خارج سياق المشهد " ؟! خلال أيام الثورة الأولى .. والمتابع لوسائل الإعلام وقتها، كان البعض يصور الحدث وكأنه " صراع أجيال "، وكانوا يظهرون تعاطى العواجيز مع الثورة فى صورة اكتفاء بما انجزته فى ثلاثة ايام من تغيير الحكومة وتعيين نائب رئيس جمهورية، خاصة بعدما أطل علينا ممن كانوا يعتبرون " النخبة " ليتفقوا على اكتفاء الثوار بما حققوه فى أول 3 أيام من الثورة ويطالبونهم بالعودة لمنازلهم، وكان الشباب يردون عليهم بأنهم جيل كل طموحه أن يجمع تبرعات فى مشكلة أوكارثة فيحلها مؤقتًا .. أن يقيل وزير فاسد ويأتى بدلا منه بوزير أقل فسادا، أن يرتفع دخل الفقراء وتنخفض نسبة البطالة والفقر والأمية ، لكن الحقيقة أن الغضب كان يغلى بداخل الجميع .. لكن الشباب فى عصر السرعة والانترنت كان صاحب رد الفعل الأقوى، وكان يحلم بالتغيير الشامل وإقامة نظام جديد . كانوا هناك كان يوجد بالميدان رجال ونساء فى خريف العمر، تروى تجاعيد وجوههم حكايات الثلاثين سنة الأخيرة من حكم نظام مبارك لبلدهم، وجاء الوقت ليشهدوا مجريات الثورة بعد أن أثقلت كواهلهم الأعباء المضاعفة والانتهاكات المستمرة، والحاج سليمان أبوبكر كان أحد هؤلاء، منذ بداية الثورة حسم أمره ليس فقط بتأييدها، بل بالمشاركة فيها أيضاً رغم سنوات عمره السبعين، كان من حوله يقولون له إن صحته لا تحتمل، كما إنه ليس محتاجاً لشيء لتقاضيه معاشاً يكفيه بعد زواج كل أبناءه، لكنه جاء ليصنع مستقبلاً لابناءه أفضل من ماضيه . أما عم مجدى اسكندر فهومن أشهر وجوه ميدان التحرير رفم سنوات عمره ال65، فهويقيم هناك بشكل كامل فى انتظار القصاص لابنه مينا إسكندر الذى استشهد يوم جمعة الغضب, وهودائم التواجد فى كل الأحداث والمظاهرات والفعاليات التى شهدتها مصر فى العامين الماضيين ليس فقط بحثاً عن حق ابنه .. لكن لأن " مصر كلها حقها لم يرجع بعد " كما يقول . مصر كلها شاركت الشاعر الكبير جمال بخيت، له وجهة نظر واقعية فى تحديد مدى مساهمة كل فئات الشعب فى الثورة، فيشير إلى أن مصر شهدت ما يقرب من 2000 وقفة احتجاجية فى الفترة ما بين عام 2008 إلى عام 2011 للشعب المصري، وليس للشخصيات السياسية، وشارك فيها جميع أطياف الشعب المصري، حيث شارك كل الفلاحون والموظفون والعمال والقضاة والإعلاميون والأطباء فى هذه الوقفات، وأضاف بخيت انه من خلال تلك الأحداث تنبأ بأن الوضع لم يظل هكذا، مؤكدا أن عدد 2000 وقفة احتجاجية الذين حدثوا فى أيام مختلفة من السنة، وفى اماكن مختلفة، سوف يأتى يوما، ويحدث وقفة تضم هذا العدد فى يوم واحد وفى مكان واحد، مشيرا إلى أن هذا سيناريو25 يناير. أما الأديب جمال الغيطانى فيرى ان المثقفين لعبوا دورا مهماً فى ثورة 25 يناير، وكان قائدا فيها وليس تابعا، كما قد يرى البعض، وقال: الشباب الذين قاموا بالثورة، هم بالأساس شباب مثقف، وهؤلاء هم المثقفون الجدد، فى كتابتنا نحن الجيل القديم خلال السنوات السابقة، كنا نتنبأ بهذه الكوارث، وننوه عن أخطارها، لكن أحدا لم يكن يقرأ، بينما هؤلاء الشباب قرأوا ما كتبناه، وعندما ذهبت إلى الميدان وكنت أعتقد أن أحدا لن يتعرف على وجدتهم يرحبون بى . واتفق معه الروائى إبراهيم عبد المجيد، وأشار إلى من قاموا بالثورة فى الأساس هم المثقفون وخريجوالجامعات، والمدونون، كما كان للصحافة الإلكترونية، وصفحات الفيس بوك التى أسسها مثقفون بالأساس دورا كبيرا فى التنظيم والتجهيز لها، وقال " المسألة ليست من قاد من، ولكن جيل الشباب من المثقفين هومن فجر الثورة وتبعه جيلنا من العواجيز وذلك ليس جديدا فالشباب دائما هومن يقود الثورات، فجيلى من الكتاب والمثقفين والمواطنين هومن فجر ثورة الخبز فى 1977، فقيادة الشباب للثورة شيء طبيعي، جدا " . مناضلون ضد الفساد الشباب هم الذين ضحوا واستشهدوا واصيبوا .. دفعوا الثمن ولم ينالوا اى شيء، هم البطل والمظلوم، لكن على مدى سنوات كان هناك اخرون يدفعون ثمن كلمة الحق، ومن الظلم أن نبخسهم حقهم الان، هؤلاء كانوا " ملح الأرض " الذين مهدوا التربة فانبتت شباب 25 يناير، قاوموا لسنوات طويلة وحاولوا .. فشلوا ونجحوا لكنهم لم يصمتوا، فالقضاء الشرفاء أمثال المستشارين أحمد ومحمود مكى وهشام البسطويسى ونهى الزينى وهشام جنينة لا أحد يبخس حقهم، بل وراحلون شاركوا فى الثورة ولم ينتظروا ليروا ثمارها مثل عبد الوهاب المسيرى وأحمد عبد الله رزة وحسام تمام وعمار الشريعى وغيرهم كثيرون، كل هؤلاء لم يكونوا شباباً .. لكنهم ثوار بلا شك، وقد أورد الدكتور رؤوف ماجد قائمة بكثيرين آخرين فى كتابه " الرقص مع الفساد " لشخصيات ورموز لمقاومة الفساد فى مصر خلال السنوات الماضية ومنهم باحثون أصحاب مواقف عملية ودراسات رائدة مثل عبدالخالق فاروق، ومحامون حافظوا على أصالة الدور الوطنى للمهنة مثل صلاح صادق، وأحمد سيف وخالد علي، وكتاب عارضوا النظام السابق ودفعوا اثماناً غالية لذلك مثل عبدالحليم قنديل ومجدى حسين ومحمد عبد القدوس وسعد هجرس وحسن نافعة وسعيد الشحات وإبراهيم عيسى وعادل حمودة ووائل الإبراشى وحمدى قنديل، والقائمة طويلة وتضم اسماء كثيرة منها الدكتور محمد البرادعى والدكتور عبد المنعم أبوالفتوح وحمدين صباحى والدكتور محمد غنيم والدكتور عبدالجليل مصطفى وكريمة الحفناوى وبثينة كامل ويحيى حسين وحسين عبد الرازق وممدوح حمزة، أما علماء الدين الذين دفعوا ثمن معارضتهم فكانوا كثيرون ومنهم يوسف القرضاوى وأحمد المحلاوى ومن قبلهم محمد الغزالى رحمه الله، من ينكر دور أجيال طويلة من عمال غزل المحلة .. بل وحتى الشيخ امام الذى رحل قبل الثورة بعشرين عاماً لكن اغنيته " صباح الخير على الورد اللى فتح فى جناين مصر " كانت النشيد الوطنى لتأبين الشهداء فى التحرير، ووسط شباب الفنانين مثل أحمد عيد وراندا البحيرى وجيهان فاضل .. كان يوجد خالد الصاوى، وكان يوجد نادر السيد ممثلاً عن الرياضيين الشباب .. وبجانبه د. علاء صادق الذى يكبره ب20 عاما، من ينسى شاهنده مقلد واحمد فؤاد نجم وكمال خليل وجورج اسحق .. آلاف الفلاحين والموظفين اللذين نزلوا للشوارع فى جمعة التنحى، سيظل الشباب هم نقطة الانطلاق والقاطرة التى قادت المسيرة .. لكن بمفردهم لن يكن هناك شيء سيتحقق، ألا يعتبر كل أب وأم قدموا فلذات اكبادهم شهداء لهذا الوطن من صناع هذه الثورة ؟! لماذا انضمت الأغلبية الصامتة إلى الشباب ؟! د. وحيد عبد المجيد مستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية والمحلل السياسى يختصر الإشكالية كلها قائلاً : عُرفت الثورات المصرية فى العصر الحديث بأسماء قادتها. فمن أحمد عرابى إلى جمال عبد الناصر مرورا بسعد زغلول، ارتبطت ثورات المصريين بقيادة معروفة سواء كانت الثورة شعبية كما فى 1919 أوقادها الجيش ونالت قبول المجتمع كما فى 1881 و1952، وهذا أحد أوجه الاختلاف بين ثورة 25 يناير 2011 الشعبية وتلك الثورات، فهى ثورة بلا قيادة محددة معروف عنوانها، لم يخطط أحد لإشعال ثورة شعبية تغير نظام الحكم، وإن كان من دعوا إلى مظاهرات أدت إليها تمنوا تحقيق أقصى تغيير ممكن، بعد أن حفزهم نجاح الثورة التونسية وجعلهم أكثر ثقة وأشد إصرارا. وأتاح لهم هذا الإصرار وتلك الثقة إمكانات لم تكن منظورة عندما دعوا إلى التظاهر فى يوم يحتفل فيه جهاز الشرطة بعيده السنوى لتوجيه رسالة قوية من الشارع ضد انتهاكات هذا الجهاز لحقوق المصريين وحرياتهم واستهانته بكرامتهم، غير أن مظاهرات ذلك اليوم تحولت إلى مقدمة ثورة شعبية عندما انضم إليها عدد أكبر من أية مظاهرات سابقة، وحين أفرطت قوات الأمن فى استخدام القوة ضدها، غير أنه ما كان لمظاهرات اليوم الواحد أن تشعل ثورة يشارك فيها ملايين عدة على مدى 18 يوما إلا لوجود منهج جديد فى الاحتجاج ومقاومة التسلط والظلم، وقد اقترن هذا المنهج بجيل جديد من الناشطين أجاد استخدام وسائل ثورة الاتصالات وتوظيف مواقع التواصل الاجتماعى لتعويض غياب قيادة على الأرض، ولم يكن ممكناً فى الأغلب الأعم أن يوجد قائد فرد لحركة شعبية كبرى فى عالم الانترنت حين تكون الأدوات الالكترونية هى وسيلة التعبئة المعتمدة، وفى وقت بات صعباً اختصار الشعوب والمجتمعات فى شخص واحد مهما كانت قدراته على التأثير فى الناس، ولذلك لم يظهر بين الشباب، الذين دعوا إلى مظاهرات 25 يناير وقادوها وساهموا مع غيرهم فى استمرار الاحتجاجات الواسعة التى اقترنت بها وتحولها إلى ثورة، من يمكن أن يكون قائدا فردا، وليس هناك تعارض بين القول إنها ثورة شباب الألفية الجديدة واعتبارها ثورة الشعب المصرى بمختلف أجياله، لأن هؤلاء الشباب هم الذين عوضوا غياب القيادة اللازمة لتنظيم الحركة وتجنب العشوائية، إلا أن النقطة التى لابد من طرحها هى : هل من يتظاهر هم فقط من الشباب؟ هل من يٌعتقل ويفقد حياته هم من الشباب فقط؟ هل من أُستشهد فى ساحات الثورة هم من الشباب فقط؟ أليس متوسط أعمار المعتقلين والمفقودين والمستشهدين والمصابين والمطلوبين هى مابين الثلاثين والخمسة والأربعين؟ أليست ثورة الشباب هى فداءً للحرية والكرامة؟ فكيف لنا من مصادرة حقهم وتضحياتهم فى الثورة؟ ولما الإصرار على أنها ثورة شبابٍّ فقط؟ لم لا نقول هى ثورة شعب, بدأها الشباب واستمرت بتكاتف الشبابُ والرجالُ والشيوخ، لنقل هى ثورة الشعب.. بدأها الشباب.. ثورة لما كانت أن تبدأ لولا الشباب، وما كان لها أن تستمر لولا الشعب كُله.