من بين ملامح وسمات عديدة تجعل شنغهاي مدينة مختلفة ومتميزة حيوية وتنوع مكتباتها. فالمكتبات هناك تضاعف من متعة القراءة والتجول بين الأرفف. الأغلفة أقرب للوحات تشكيلية، والديكورات محفزة علي النشاط الذهني. ثمة عناية فائقة بالتفاصيل، وحتي إذا كنت لا تجيد اللغة الصينية ودخلت مكتبة مخصصة للإصدارات الصينية فقط، لن تشعر بالغربة أو الملل. ستجد ما يلفت نظرك في جماليات التصميم والإخراج الفني والتنفيذ. علي واجهة مقهي ما في الحي الفرنسي هناك، قرأت لافتة تقول: »نقدم أفضل قهوة ومخبوزات، لكن قبلها الكتب». في بعض الحالات، لا تعرف إن كان ما أمامك مقهي يوفر كتباً لمرتاديه أم مكتبة تقدم مشروبات ومكاناً مريحاً للجلوس والقراءة. غير أن أكثر مكتبة لفتت نظري في »لؤلؤة الشرق»، كما يطلق عليها محبوها، كانت مكتبة اكتشفتها في يومي الأول بالمدينة وأُخذت بجمالها وجوها الحميمي والدافئ، قبل حتي أن أعرف القصة الكامنة خلفها. اسم المكتبة »colourful» أو الكتاب الملون، وتقع في وسط المدينة علي مقربة من معبد جينغ آن بالدور الأرضي لبناية عرفت لاحقاً أنها البناية حيث أقامت الكاتبة الصينية الشهيرة إيلين تشانج التي تغمر صورها وكتبها أرفف وحوائط المكتبة. الشغف بتشانج وزمنها واضح في كل تفاصيل المكتبة، بمجرد الدخول إليها يشعر المرء أنه في حلم تدور أحداثه في شنغهاي الأربعينيات حيث عاشت إيلين قبل انتقالها إلي هونج كونج ومنها إلي الولاياتالمتحدة. من المألوف إقامة متحف لكاتب ما أو تحويل مقر إقامته إلي مزار لقرائه ومحبيه، لكن تخليد ذكري كاتب ما عبر إقامة مكتبة خاصة تتمحور »تيمتها» الأساسية حول حياته وأعماله وزمنه كان أمراً جديداً بالنسبة لي. في 2009 شاركت مع عباس بيضون وإيتيل عدنان في قراءة شعرية بمكتبة تقع أسفل البيت الذي عاش فيه هاينريش هاينه في دوسلدورف وتكتسب أهميتها من اسمه، لكن تفاصيلها وأجواءها لم تكن مرتبطة به كحال ارتباط »colourful» بإيلين تشانج، كما لم تكن بتلك الحميمية ولم تعكس هذا الإحساس البيتوتي بالألفة والراحة. ما ذكرني بمكتبات شنغهاي، ومن بينها هذه المكتبة المثيرة للاهتمام، تقرير قرأته مؤخراً في جريدة »تشاينا دايلي» جاء فيه أن السلطات الصينية خصصت 50 مليون يوان لدعم 151 من مكتبات بيع الكتب، وأن مكتب الصحافة والراديو والسينما والتلفزيون في بكين أعلن الشهر الماضي أن مبلغ 36 مليون قد أُنفق -علي مدار العامين السابقين- علي تطوير وتسيير 140 مكتبة. وورد في التقرير نفسه أيضاً أن 80 مكتبة جديدة قد أُنشئت في بكين وحدها منذ 2016 حتي الآن، ليبلغ عدد مكتبات المدينة 1011 مكتبة و29 مركزاً تجارياً مخصصاً بالكامل لبيع الكتب. ما عاينته في شنغهاي من مكتبات وما قرأته عن مكتبات بكين، يؤشر علي وضع الكتب والثقافة في الصين، وأظن أنه ليس من المجدي محاولة مقارنة وضع الكتاب هناك بوضعه لدينا، فلا مجال للمقارنة. وأي حديث عن غياب دعم الدولة للناشرين وأصحاب المكتبات سيكون مجرد تكرار لأحاديث سابقة لم تجد من يصغي لها. لكن يبقي القول أن المؤلف العربي هو الحلقة الأضعف في دائرة النشر هنا، إذ نادراً ما يهتم الناشر، الذي لا يكف عن الشكوي من سطوة أصحاب المكتبات وغياب دعم المواد الداخلة في صناعة الكتاب، بمنح المؤلف حقوقه المادية، بل أصبح من المألوف أن تطالب كثير من دور النشر المؤلفين (الشباب علي وجه التحديد) بدفع نقود لها مقابل موافقتها علي نشر أعمالهم.