المعارك القادمة التي يجب أن يخوضها الرحيل الحزين للإمام الأكبر د. محمد سيد طنطاوي ومشاعر الحزن والإجلال التي أحاطت برحيل الرجل تبدو مناسبة للتوقف لتحليل أسباب الضوضاء التي أحاطت بالرجل رغم اعتراف الكثيرين بفضله.. وعلمه.. بل وإخلاصه. كان الرجل شجاعاً بحق، ومستنيراً بحق، ومؤمناً بما يقول ويفعل لدرجة الانفعال الدائم ضد كل محاولة للتشكيك في صدق نواياه. لكن هذا الرجل الشجاع بدا دائما غريبا ومغتربا معظم الوقت لأنه لم يمهد الأرض لآرائه المستنيرة ولم يؤسس لبنية تحتية إصلاحية داخل المؤسسة العريقة، ولم يعلن عن أنه يتبني مفهوما شاملا لإصلاح الفكر الديني، لذلك تم استقبال آرائه وفتاواه الشجاعة علي أنها آراء فردية، فكان التربص بها والمعارضة دائمة لها سواء بالحق أو بالباطل، وهكذا فإن المطلوب من شيخ الأزهر القادم أن يعلن عن دعوة لإصلاح الفكر الديني وأن يكون صاحب قضية دائمة لا صاحب مواقف وفتاوي فردية لا يجد الناس لها تفسيرا سوي أنها جاءت خدمة لمواقف الدولة فيكون التربص بها ومعارضتها تلقائيا وإفقادها مصداقيتها لدي الرأي العام رغم أنها في أغلبها - في حالة شيخ الأزهر الراحل - كانت فتاوي شجاعة ومستنيرة لا تهدف إلا لصالح البلاد والعباد. ثانيا: ليس مطلوبا من شيخ الأزهر ولا من الأزهر أن تتطابق مواقفه السياسية اليومية مع مواقف دولة يحكمها دستور مدني وقوانين وضعية، ولعله ليس مطلوبا منه أن تكون له فتاوي يومية ومتكررة تتعلق بالقضايا السياسية المباشرة ينافس بها الفتاوي التي تصدرها جماعات الإسلام السياسي بقدر ما هو مطلوب منه أن يبدأ حملة شاملة وكبيرة وعميقة لتجديد الفكر الديني وتنقية التراث الإسلامي من شوائب كثيرة علقت به، وإحياء الدعوة للاجتهاد اقتداء بالأسلاف العظام من المجتهدين وفتح باب الاجتهاد الفقهي الذي أغلق منذ القرن الرابع الهجري دون سبب واضح لإغلاقه ودون أمر سماوي بكل تأكيد، ولعل الأهم من الترفع عن الانزلاق لهوة الاستخدام السياسي للدين مجاراة للمنافسين هو أن يبدع شيخ الأزهر القادم في خلق وظيفة معنوية جديدة للأزهر أو أن يحدد المعركة التي عليه أن يخوضها، حيث كانت آخر المعارك الكبيرة التي خاضها علماء الأزهر في مصر هي معركة التصدي للأفكار الجهادية والإرهابية وإثبات خروجها عن صحيح الدين، وقد استغرقت هذه المعركة سنوات الثمانينيات والتسعينيات، وعندما انحسرت مخاطر الإرهاب بدا وكأن دور الأزهر قد تراجع، وبدا أيضا وكأن المؤسسة الكبيرة والعملاقة والتي يمتد تاريخها لأكثر من ألف عام لم يبق لها من الأدوار سوي أدوار صغيرة لاتليق بها، وهو ما انعكس علي الصورة العامة لشاغل المنصب الأكبر. -- الحقيقة أنه إذا كانت أفكار الإرهاب المتسترة وراء الدين هي آفة الثمانينيات والتسعينيات فإن التدين الشكلي والطقوسي والمظهري هو آفة الدين في مصر طوال السنوات الأخيرة، هذا التدين الذي يكتفي بالمظهر دون الجوهر ولا يتحول إلي إتقان في العمل ولا أمانة في المعاملة ولا رقي في السلوك ولا إحساس بآلام الآخرين ولا رغبة في المشاركة ولا احترام للقانون هو آفة مصر في سنواتها الأخيرة، والحقيقة أنه يليق بالأزهر أن يتصدي لهذا النوع من التدين الكاذب وأن يقود حملة لما يمكن تسميته بالتدين الحضاري الذي يقنع الناس أن المسلم الحق هو الذي يتقن عمله وينهض بمجتمعه ويهزم عدوه بالعمل لا بالدعاء ولا بارتداء النقاب والجلباب، كما يروج الدعاة الأكثر شعبية للأسف في الشارع المصري الآن، وهكذا فإننا نستطيع أن نقول إن إطلاق الدعوة للتدين الحضاري وإعلان الحرب علي التدين الشكلي والطقوسي الذي أصبح آفة الدين في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة وما سبقها ، والحقيقة أيضا أن الوصول للغايات النبيلة لا يتم دون تضحيات كبيرة، ولعل المطلوب من الإمام الأكبر أن يدرك أن مصر في 2010 تختلف عن مصر في 1072 حيث شاعت وجهة نظر سياسية تري في تنشيط التيارات السلفية في الشارع المصري حدا من أخطار تيارات سياسية مختلفة، ولم يبد الأزهر انزعاجا لاعتبارات مختلفة بعضها طيب وبعضها خبيث وبعضها يتعلق بأن أداء هذه التيارات تجاه الأزهر في مرحلة النشأة كان يختلف عن أدائها تجاهه الآن، وعلي موقع يوتيوب الإلكتروني المصور تستطيع أن تجد عشرات، بل مئات التسجيلات لمشاهير الدعاة السلفيين يهاجمون فيها شيخ الأزهر وكبار علمائه بكل ما هو مقذع وبذيء وبلغة لاتليق بالتعامل مع كبار العلماء حتي وإن أخطأوا، والمدهش أنك عندما تبحث ستجد أن فريقا من هؤلاء الدعاة هم تلاميذ صغار في الأزهر بعضهم بدرجة خريج، وبعضهم بدرجة معيد وبعضهم مدرس استهوتهم الأفكار السلفية وظنوا أن إهانة الأزهر وعلمائه يخدم أفكارهم ففعلوا وتمادوا حتي إنني وجدت خطبة لواحد منهم يصف فيها د. علي جمعة مفتي الديار المصرية بأنه (الشيخ كركر) ويسوق مجموعة من البذاءات الضاحكة للتدليل علي صحة التسمية التي أطلقها علي العالم الجليل الذي يقول المنطق إنه يجوز، بل يجب الاختلاف معه، ولكن بما يليق . -- الأعجب أن الفريق الأكبر من هؤلاء الدعاة لم يدرس في الأزهر من الأساس، ويقول بعضهم إنه تلقي العلم عن كبار مشايخ السلفية الذين التقاهم أثناء إعارته للعمل في بعض دول الخليج، والمعني أنه ليس مطلوبا من الإمام الأكبر طوال الوقت أن يترفع عن خوض المعارك دفاعا عن مواقفه ولا أن يبقي طوال الوقت هدفا للهجوم من الصغار بحجة أنهم صغار أو مراعاة للعلاقات مع الدول والمدارس العلمية التي ينتسبون إليها، مطلوب من شيخ الأزهر أن يحافظ علي هيبة الأزهر كجامعة علمية عريقة يمتد عمرها لأكثر من ألف عام وليس مطلوبا منه أن يتحمل سخافات أراذل الدعاة وسفهائهم ولا مطلوبا منه أن يعطي الدنية في دينه استنادا إلي أنه أكبر من مهاجميه وإذا كان لابد فعليه أن يشكو هؤلاء الصغار للعلماء الذين ينتسبون إليهم في بلاد الخليج، ويطلب منهم أن يأمروهم بالتزام الأدب عند الخلاف مع العلماء، وهكذا فإن الحفاظ علي هيبة الأزهر وكبريائه هو المطلب الرابع، ولعله المطلب الأهم، علي أن الرد علي الاجتراء والمتطاولين ليس هو الجانب الأوحد من الصورة وليس هو المطلوب الوحيد، إذ إن هناك طلبا آخر من الإمام الأكبر الجديد هو أن يستغل ما تبقي من المكانة الروحية الهائلة للأزهر في العالم الإسلامي، وخاصة في الدول الإسلامية غير العربية وهي لحسن الحظ نالت قدرا كبيرا من النجاح الاقتصادي والتأثير في عالم اليوم وليست أمثلة مثل إندونيسيا وماليزيا وتركيا عنا ببعيد، حيث ينظر المسلمون في هذه البلاد لشيخ الأزهر نظرة تكاد تقترب من التقديس، لكن هذه المكانة المعنوية بدت في كثير من الأوقات، وكأنها مكانة مهدرة لا تجد من يستغلها. -- لقد جري العرف لسنوات طوال علي أن يتقدم مفتي الجمهورية ليشغل منصب الإمام الأكبر متسلحاً بخبرة سنوات طويلة في معالجة القضايا الشائكة لكن الشواهد تقول أنه ليس شرطا إجبارياً أن يصبح المفتي هو «الإمام الأكبر» إلا إذا توافرت فيه الشروط وأياً كان الشيخ القادم..لعل المطلوب منه أن يعتبر نفسه كما كان المنصب دائما إماما أكبر للمسلمين في كل أنحاء العالم وليس في مصر فقط، ذلك أن ما يسري علي الكل يسري علي الجزء، ولعله ليس عيبا ولا إفسادا للمودة في القربي أن يدرك شيخ الأزهر أنه يتعرض للمنافسة من مدارس ومراكز إسلامية أخري تري نفسها أجدر بقيادة العالم الإسلامي، ولعل وعيه هذا نفسه هو الذي سيجعله يدرك أن عليه أن يعتز بنفسه وبالجامعة العريقة التي يمثلها ولا يقبل أن يكون هو نفسه أداة من أدوات هزيمة الأزهر في هذا التنافس المشروع، بل أن يدرك أن ثمة أصواتا وتغيرات في بعض هذه المجتمعات تجعلها أقرب إلي اتباع الأزهر وتفسيره السمح والحضاري للإسلام، وهو ما يضاعف من أهمية أن يكون الأزهر قائدا لا مقودا ورائدا لا تابعا وهي مكانة يستحقها الأزهر عن جدارة وأهداف يستطيع أن يحققها لو وضعها الإمام الأكبر نصب عينيه ولم ينشغل بغيرها.