أعلم أن الحماس يسبق الحكمة حين يشعر الناس بجرح عميق فى كرامتهم فينتفض الشارع ليعلن رفضه واستنكاره وقد يتمادى إلى ماهو أبعد من ذلك مع صيحات المطالبة بثأر الدم المصرى الذى سال اعتداء وغصباً على الحدود بأيدى الجيش الإسرائيلى. دماء الشهداء لايمكن تعويضها أبداً إلا بالبناء عليها وتحقيق هدف أسمى. أبناؤنا الذين استشهدوا على الحدود راحوا ضحية حادث حدودى، وعلى المخطىء وهو إسرائيل أن يدفع الثمن، السؤال ما هو الثمن؟ هل يكفى الاعتذار، ما هو نوع الاعتذار، كيف يمكن أن نتجنب حوادث مماثلة؟ هكذا تسير الأمور فى مثل تلك الأحداث التى تقع على الحدود بين الدول التى تتميز علاقتها بنوع من التوتر لأسباب مختلفة. أما قطع العلاقات وإلغاء المعاهدات فله نتائج أخرى لعل أقلها أهمية هو فتح بوابة الصراع المسلح الذى يطول كل بقعة فى البلد، أما أكثرها أهمية فهى نتائج الصراع المسلح والواقع الذى ستواجهه الأطراف بعد أن يتوقف الصراع المسلح، ولذلك حساباته الخاصة به، وهى حسابات تتعلق بالشعب كله اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وليس فقط بجماعات الغاضبين الذين يجدون خيار الانخراط فى التصعيد والصراع المسلح جذاباً وبابا لكسب شعبية غير واعية. هنا نسأل: هل تغيرت مصر بعد 25 يناير، والإجابة نعم تغيرت وأصبحت للشارع كلمة مسموعة وتأثير عميق فى اتخاذ القرار، ربما حدث ذلك بقدر لايرضى طموح بعض الناشطين، لكنه فى ظنى مقبول فى ظروف الأوضاع الانتقالية التى تمر بها البلاد فى ظل السلطة المؤقتة للمجلس العسكرى الحاكم والحكومة التى عينها لإدارة البلاد. من هذا المنطلق يجدر بالجميع عدم دفع الأمور فى اتجاه مواقف متشنجة تضع البلاد كلها على محك خطير مثل الدخول فى حرب مع إسرائيل أو غيرها، فى أثناء غياب السلطة الشرعية المنتخبة التى تمثل الشعب وتعبر عن إرادته، وبالتالى عليه أن يتحمل تبعات ما تختاره تلك الحكومة من قرارات. تفيد المعلومات القليلة الموثوقة حول الحادث الحدودى أنه نتج عن مطاردة قوة إسرائيلية للمجموعة التى هاجمت منطقة إيلات داخل إسرائيل على مقربة من الحدود المصرية، الجانب الإسرائيلى اعترف أنه أخطأ، الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز قدم اعتذارا لمصر عن الحادث تم فتح تحقيق موسع بغرض تجنب وقوع مثل هذا الحادث مرة أخرى. طيب.. لو كان الحادث وقع من الجانب المصرى أثناء حملة مطاردة القوات المصرية للعناصر المتطرفة أو الخارجة على القانون فى سيناء. واضطرت إلى إصابة جنود إسرائيليين بالخطأ، ماذا ستكون النتيجة؟ نفس النتيجة غضب فى الشارع الإسرائيلى وتوتر دبلوماسى ينتهى بالاعتذار أو الأسف وتشكيل اللجان المشاركة للتحقيق، لكن أن يطلب أحد إعلان الحرب بسبب وقوع حادث حدودى غير مقصود. هناك بعض الأطراف تقسم أن قتل الجنود المصريين كان مقصوداً وأن تل أبيب تبيت النية للإضرار بالمصالح المصرية. هناك أطراف تعيد خلط الأوراق بين الملفين المصرى والفلسطينى الذى فصلته اتفاقية كامب دافيد وعززته معاهدة السلام بين مصر وبين إسرائيل برعاية أمريكية. طبعاً كل واحد حر فيما يراه، لكن السؤال هل هذه المواثيق الدولية فى مصلحة مصر أم لا؟ ومن الذى عليه أن يقرر ذلك، لن أتحدث عن مصلحة إسرائيل فى احترام تلك المواثيق فهذا شأن لايعنينى، لكن فى سياق التحليل نستطيع القول أن كلا الطرفين له مصلحة فى احترام تلك المواثيق بصرف النظر عمن يتولى الحكم فى مصر أو إسرائيل. حسابات المصلحة ليس مكانها الشارع وإنما يتناولها متخصصون. يكفى أن نشير إلى أن إلغاء معاهدة السلام يعنى واحدا من اثنين: أن إسرائيل أصبح لاوجود لها فى المنطقة، أو أنه عادت لاحتلال سيناء، لكن لكى لانضيع دم الشهداء يجب أن نبنى عليه تعديلاً فى بنود من المعاهدة أصبحت غير واقعية وهى التى تسبب حوادث الحدود. وتلك قصة أخرى.