كتب - محمود الخولى منذ سقوط رموز الفساد والحديث لا ينقطع عن الأموال المنهوبة وملوك غسيل الأموال في مصر الذين شكلوا لغطا كبيرا في الشارع المصري بعد ثورة يناير، خصوصا بعد تراجع الاقتصاد المصري والمحاولات المكثفة لإنقاذه. هذه الدراسة المهمة بمثابة دليل لكيفية الكشف عن هذه العمليات القذرة وأهم الطرق المتداولة فيها بالتفصيل. في الشهر الماضي تمت إدانة حبيب العادلي بتهمة غسيل الأموال ومن قبله كان خيرت الشاطر قد تم حبسه بنفس التهمة فما هو غسيل الأموال وكيف يمكننا الكشف عن أية عملية فور وقوعها؟ غسيل الأموال ينقسم إلي جزءين: غسيل الأموال وغسيل الأموال العكسي. غسيل الأموال المقصود به إخفاء مصدر أموال غير شرعي وتحويله إلي مصدر شرعي يبيح لك استخدامه والتمتع به، ومثلا علي ذلك إذا كنت مسئولا كبيرا وتقاضيت رشوة وتريد أن تستفيد من هذه الرشوة وإظهارها في تقارير الذمة المالية الخاصة بك دون أن تخشي أحدا أو إذا كنت تاجر مخدرات وتريد إخفاء الثراء الناتج عن ذلك في شكل تجارة مثلا وأيضا إذا كنت طبيبا تتاجر في الأعضاء البشرية وتريد أن تخفي تربحك من هذه التجارة غير المشروعة، فيمكنك استخدام أكثر من 300 طريقة معروفة لإخفاء أموالك ولا تقلق لأن مصر كلها لا يوجد بها بنوك تطبق آليات الكشف عن غسيل الأموال! ولتقريب الفكرة سنعطي مثالين من الثلاثمائة التي يتم استخدامها. لنفرض أنني مسئول فاسد وتقاضيت رشوة مثلا 3 ملايين جنيه كيف يمكنني أن أضعها في البنك بدون أن يراجع البنك حسابي ويقر أن هناك تحويلا غير شرعي لا تبرره مصادر دخلي كما حدث مع العادلي؟ الحل بسيط هو إذا كنت مثلا سأتقاضي الرشوة من أحد المصانع فسأطلب منهم تعييني مستشارا لهم في التسويق ويتم عمل عمليات بيع وهمية للمصنع بمبلغ مثلا 5 ملايين جنيه كنتيجة مباشرة لبراعتي في تقديم استشاراتي في هذا المصنع، وبالتالي سأستحق عمولة كبيرة من هذا المصنع والتي مثلا ستكون 2,1 مليون جنيه «باقي الثلاثة ملايين هو ما تم دفعه من ضرائب وعمولات غسيل المبلغ لأصحاب المصنع»، ويمكنني في هذه الحالة أن أضع المبلغ المتبقي من الرشوة في حسابي في البنك بصورة قانونية تماما ويصعب علي أي بنك أن يكتشف بصورة يدوية أن كل عمليات البيع التي تمت كانت وهمية أو كان هدفها الأساسي هو الرشوة، وهكذا لن يستطيع أحد محاسبتي تماما مثلما يحدث الآن مع معظم الوزراء والمسئولين السابقين. المثال الثاني وهو شائع جدا بين الأطباء الذين يعملون في تجارة الأعضاء البشرية في مصر، وهو ببساطة يفتتح متجرا لبيع الأنتيكات والتحف في إحدي المناطق الراقية ويشتري بعض التحف والأنتيكات من الأفراد «طبعا بدون فواتير» ويتم تسجيلها بمبلغ أقل من قيمتها ثم بعد ذلك يتم بيعها «غالبا بيع وهمي أيضا»، بمبلغ أكبر بكثير جدا من قيمة الشراء ويدفع عنه الضرائب القانونية ليكمل الصورة الشكلية ويسجل فرق السعر بالملايين التي هي أساسا نتيجة عملية لزراعة أعضاء بشرية. أما غسيل الأموال العكسي فهو أن يكون هناك أموال من مصدر مشروع ويتم إنفاقها في مصدر غير مشروع مثل تمويل العمليات الإرهابية أو شراء أسلحة محرمة دوليا أو حتي من دول كاملة عليها حظر مثل إيران الآن أو السودان منذ عامين والعراق من قبلهما، وهناك أيضا نوعان آخران يتم إضافتهما لهذه القوائم أولهما هم من ثبتت ضدهم قضايا فساد مالي مثل عائلة مبارك والوزراء المتهمين في مصر والنوع الأخير هم جميع المشتغلين بالسياسة، ويطلق عليهم PEP وجميع المديرين التنفيذيين بالبنوك ويطلق عليهم FEB حتي إن كانوا صالحين ويتم وضعهم في القائمة بغرض المراقبة وليس المنع أي أن أي عملية تحويل أموال عبر البلاد لأي شخص يشتغل بالسياسة يجب أن يتم مراقبتها يدويا ومراجعة مصدرها لكي لا يكون هناك شبهة فساد أو رشوة، وبالطبع هذا لا يتم في أي من بلاد المنطقة العربية لرفع الحرج عن الفاسدين. وهنا يجب التوقف عند نقطتين أولا هل تم وضع مبارك والوزراء الفاسدين في قوائم غسيل الأموال؟ الإجابة هي نعم جزئيا أي أنه تم وضع قائمة بأسماء 19 شخصية هم مبارك وعائلته وأحمد عز وجرانة والمغربي وأزواجهم. وهذه القائمة صدرت بناء علي طلب من النائب العام للاتحاد الأوروبي وإنجلترا فقط، ولم يتم تطبيقها في أمريكا، ومعني هذا أن أية أموال باليورو أو الجنيه الاسترليني لهذه الأسماء سيتم تجميدها والإبلاغ عنها، أما المعاملات بالدولار فهي حرة طليقة ولن يمسسها أحد أي أن هناك شبهة تواطؤ واضح في إسكات الرأي العام، وفي نفس الوقت السماح لهؤلاء الأشخاص بالتصرف في أموالهم، ولكن بالدولار فقط، والقائمة الموجودة بالاتحاد الأوروبي متوافرة في هذا الموقع: http;//eur-lex.europa.eu/LexUriServ/LexUriServ.do? uri=OJ: 2011:067:0004:EN:PDF أما القائمة الأمريكية الخالية من أسمائهم فهي في هذا الموقع: http://www.treasury.gov/ofac/downloads/sdnlist.txt وغسيل الأموال العكسي تتم مراقبته عن طريق وضع قوائم تحدث بشكل يومي، ويتم إدراج كل من له شبهة إرهابية أو فساد بها ويلزم علي كل البنوك مراجعة كل عملياتها للتأكد من أن أيا من عملياتها لم يتم لصالح أو من أي شخص مدرج في القائمة لأن العواقب تكون وخيمة جدا وتصل إلي حبس المسئول عن إدارة الالتزام بالبنك، وتوقيع غرامات قاسية جدا علي البنك المشارك في العملة والتي قد تصل إلي 750 مليون دولار غرامة مثلما حدث مع بنك citi National Bank. وتم توقيع الغرامة عليه في فبراير 2005 وأيضا إذا تكررت المخالفة قد يتم سحب رخصة البنك مثلما حدث مع بنكي Citi Bank Jaban وABN AMRO. ولكن كيف يتم الكشف عن هذه المخالفات؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أولا معرفة كيف يتم التحويل بين البنوك وهو يتم عن طريق رسائل بنكية يتم إرسالها بين البنوك لتنفيذ تحويل دولي بين بنكين، وهذه الرسالة الإلكترونية هي ضمان بين بنكين لدفع الفلوس للمستفيد وكل يوم يتم إرسال قائمة بالتحويلات للبنك المركزي في كل دولة وإذا كان التحويل بالدولار مثلا فيتم إرسال قائمة التحويلات للبنك المركزي في أمريكا، ثم يتم عمل مقاصة أي حساب المبالغ المدينة والمستحقة لكل دولة، ويقوم بتوزيعها البنك المركزي في كل دولة علي البنوك الخاضعة له ثم في آخر مرحلة يتم نقل الأموال الفعلية أو السندات الضامنة لهذه الأموال بين الدول. إذن سيكون عند البنك المركزي في أمريكا قائمة بجميع التحويلات التي تمت بالدولار، مما يعني أنه من الممكن عمل فحص عليها واكتشاف أي عمليات تمت لصالح أشخاص مشبوهين، وأيضا هناك قائمة لدي البنك المركزي في إنجلترا عن كل عمليات الجنيه الاسترليني وأوروبا عن عمليات اليورو. سؤال مهم آخر: وماذا يحدث في الأموال السائلة وهل صحيح ما تم سماعه عن الأموال التي تم نقلها بواسطة الطائرات أو المراكب أثناء الثورة؟ الأموال السائلة نقلها والتعامل بها يواجه صعوبات هائلة خاصة أن البنوك الأوروبية والأمريكية جميعها لا تقبل أموالا سائلة وكذلك لا يمكنك شراء أي شيء بها لأن البائع سيواجه نفس المشكلة في أثناء محاولته إيداعها البنك، ولذلك فإنه من المستحيل عمليا أن يكون تهريب الأموال قد تم يدويا وليس عن طريق تحويلات بنكية كما أن أي بنك يخضع لرقابة صارمة وكيف مثلا يتم إخراج مبالغ حتي لو جنيهات وليس ملايين بدون إثباتها في حسابات البنك؟ بالتأكيد سيظهر عجز علي أحد الأشخاص وتتم محاسبته. هل يمكن اكتشاف العمليات التي تمت في الفترة الماضية واكتشاف محاولات إخفاء الأموال التي تم تهريبها حتي لو تم هذا باستخدام أسماء وهمية؟ نعم يمكن هذا لأن كل البنوك تحتفظ بجميع التحويلات التي تمت، وكذلك البنك المركزي يحتفظ بكل التحويلات الداخلية والخارجية التي تزيد علي 10000 جنيه وباستخدام برامج غسيل الأموال التي تحلل البيانات يمكن اكتشاف أغلب العمليات المشبوهة التي تمت في الفترة الماضية. هل نفتقد الكفاءات التي تستطيع عمل مثل هذه التحليلات؟ بالعكس جميع من يعملون في البنوك المصرية والبنك المركزي هم كفاءات عالية جدا ولديهم فهم عميق لكل الأساليب المطلوبة للكشف عن هذه العمليات. لماذا إذن لم يتم الكشف عنها؟ ببساطة هم لا يملكون أي أدوات لعمل التحليلات المطلوبة وأيضا لم يتم طلب ذلك منهم، بل إن عمليات التحقيق الحالية غريبة وغير منطقية فبدلا من أن يقوم البنك بالإبلاغ عن العمليات المشبوهة وتقديم تحليلات عنها للجهات المعنية لاتخاذ إجراءات ردها إلي مصر نفاجأ أن جهات التحقيق مثلا تطالب الجهات الخارجية مثلا بنشر أرصدة خاصة بالمسئولين السابقين، وهو ما سيتم رفضه بالتأكيد من أي جهة خارجية لأنه خارج عن المنطق، التسلسل الصحيح هو عمل التحليل اللازم للبيانات الخاصة بالتحويلات في البنوك، ومنها يتم اكتشاف الأرصدة والتحويلات المشبوهة والأسماء الوهمية التي تستخدم، ثم يتم إرسال هذه البيانات لجهات التحقيق التي تبدأ التحقيق بناء علي هذه المعلومات. ما الأدوات المطلوبة لهؤلاء المسئولين؟ أولا يجب أن تكون جميع بيانات العملاء متاحة في قاعدة عملاء البنك وأي شخص تنقصه بعض المعلومات الأساسية مثل الوظيفة مثلا يتم عمل تحليلات إضافية علي حساباته واستكمال بياناته في أقرب وقت. ثانيا: يتم وضع جميع بيانات التحويلات البنكية وبيانات العملاء في برامج التحليل الخاصة بتحليل عمليات غسيل الأموال، وعادة قد تستغرق هذه العملية حوالي شهر إلي شهرين أول مرة ثم يتم متابعة التقارير التي عادة ما تكشف عن عمليات وخرائط تدفق للأموال تكون مفيدة جدا لاستكمال التحقيق واكتشاف شبكات غسيل الأموال. كيف يمكن منع الفساد السياسي الذي انتشر في الماضي من الانتشار ثانية؟ الحل بسيط، وتم تطبيقه في جميع دول العالم المتحضر، وهو بوضع أسماء جميع السياسيين في قوائم غسيل الأموال بغرض المراقبة الدقيقة وليس المنع وهذا لا يحتاج إلي أمر قضائي أو تحقيقات، وبالتالي فإن أي عملية مشبوهة لهؤلاء الأشخاص سيتم اكتشافها والإبلاغ الفوري عنها في أي مكان في العالم. واستكمالا للحل يجب أن يكون بجميع البنوك قاعدة عملاء قوية للبنك تتيح له جميع الممتلكات الخاصة بالعميل مما يسهل له اكتشاف أية عمليات مشبوهة أو غير منطقية تتم علي حساب هذا العميل، وهذا موجود بجميع دول العالم الآن باستثناء مصر وبعض دول أفريقيا الفقيرة. لماذا يكافح العالم عمليات غسيل الأموال العكسي في جميع دول العالم ويفرض عليها غرامات قاسية ولا يفعل ذلك مع عمليات غسيل الأموال الأخري؟ الواقع أن عمليات الغسيل العكسي مرتبطة بشدة بالعمليات الإرهابية الموجهة نحو العالم الغربي وبقع الصراع الحالية، لذلك فهم يبذلون أقصي ما في وسعهم لتقييد تمويل هذه العمليات، أما عمليات غسيل الأموال العادية فهي تضر فقط الدولة التي يتم الغسيل فيها لأنها تتسبب في ظهور كميات أموال ضخمة بصورة وهمية كمبيعات وهمية مثلا لأحد المصانع ثم إذا تم اكتشافها مثلا تتسبب في خسائر فادحة للاقتصاد الداخلي وتسبب ركودا اقتصاديا تماما مثلما يحدث الآن في مصر فالركود الاقتصادي الموجود الآن في مصر سببه الأساسي ليس انعدام الأمن وحده فهو منعدم أساسا منذ فترة طويلة، لكن أن الاقتصاد المصري كان مرتكزا وبشدة علي عمليات غسيل أموال ممنهجة من خلال عمليات فساد واسعة أدي توقفها إلي حدوث شلل في الاقتصاد، وهو ما تحذر منه دائما جميع الهيئات التي تكافح غسيل الأموال من حدوثه في حالة عدم اهتمام الدولة بمكافحته، أي أن الدول تسعي لمصلحتها هي فقط فهي لا تمانع أن يحدث عندك عمليات غسيل أموال لأنها ستضرك وحدك، أما عمليات غسيل الأموال العكسي فهي تحاربها في كل العالم لأنها ستؤثر عليها. ما تأثير عمليات غسيل الأموال علي الاقتصاد؟ أستعين هنا ببحث مهم قامت به مدونة سائد السعودية وشرحت تفصيليا هذه الأضرار وهي: 1- انخفاض الدخل القومي نظرا لأن التدفقات النقدية والأموال القذرة تتحرك في سبيل تطهيرها من دولة إلي أخري بمبالغ كبيرة وبشكل فجائي، فتنقص من مقدار السيولة في الدولة المحول منها لتزيد من السيولة فجأة في الدولة المحولة إليها، الأمر الذي ترتب عليه نزيف في الاقتصاد القومي لمصلحة الاقتصادات الأجنبية الخارجية. 2- انخفاض معدل الادخار نظرا لشيوع الرشاوي والتهرب الضريبي وانخفاض كفاءة الأجهزة الإدارية وفسادها. 3- ارتفاع معدل التضخم بسبب الضغط علي المعروض السلعي من خلال القوة الشرائية لفئات يرتفع لديها الميل الحدي للاستهلاك وذات نمط استهلاكي يتصف بعدم الرشد أو العشوائية. 4- تدهور قيمة العملة الوطنية وتشويه صورة الأسواق المالية. 5- تشويه المنافسة وإفساد مناخ الاستثمار. كم تكلف أنظمة مراقبة غسيل الأموال وهل هي أعلي من إمكانات البنوك في مصر؟ في العادة تكون التكلفة في حدود 5,2 إلي 5 ملايين جنيه لكل بنك تبعا لحجم أعماله، وهو مبلغ زهيد ولا يقارن بما يتم كشفه من عمليات تضر الاقتصاد القومي، وللعلم هناك بعض الشركات التي تطور هذه البرامج موجودة في مصر وكل إنتاجها منتشر في العالم كله إلا مصر! السؤال الأهم حاليا يسأل لأصحاب القرار السياسي الآن: لماذا لا يتم إصدار الأوامر بالعمل علي تحليل البيانات الموجودة بالفعل في البنوك المصرية للكشف عن تهريبات هذه الأموال ولماذا الإصرار علي السير في الاتجاه العكسي وكأنه لا حيلة لنا لأننا في انتظار أن تفصح الدول الأجنبية عن الأرصدة التي لديها سواء لمبارك أو لحاشيته؟! والسؤال الآخر: ماذا نفعل لتفادي الآثار الناتجة عن التوقف الجزئي لعمليات غسيل الأموال في مصر والتي أدت إلي الشلل الاقتصادي الراهن؟ مدير بإحدي شركات تطوير مكافحة غسيل الأموال.