ما يجرى فى أفريقيا من أحداث متسارعة لم يكن أبدًا موجة عابرة من الانقلابات المفاجئة؛ إنما يعد بداية لمرحلة جديدة ترسم ملامح الخريطة السياسية للقارة السمراء التى تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، يتطلب حوارًا جادًا حول الحكم الرشيد والمساءلة والدور الحقيقى للجيوش؛ وتعزيز التداول السلمى للسلطة. كما يحلل العودة الممنهجة لمشاهد الإطاحة بالحكومات التى سجلت سبعة عشر محاولة انقلابية فى أقل من خمس سنوات، وتنامى النفوذ الدولى فى توجيه مسارات الحكم سواء عبر الدعم المباشر أو التدخل غير المعلن ومخططات توطين الإرهاب الدولى. انقلاب بنين الانقلاب الأخير الفاشل محدود النطاق فى بنين لم يكن حدثًا معزولًا بل حلقة جديدة فى سلسلة من التحركات العسكرية الغريبة التى أطاحت بحكومات منتخبة فى دول مثل مالى وغينيا وبوركينا فاسو والنيجر والجابون. قاد محاولة انقلاب بنين مجموعة صغيرة من الجنود بزعامة المقدم باسكال تيغرى ضابط المدفعية السابق وعضو فريق حماية الرئيس الحالى، حاول المتمردين إزاحة رئيس الجمهورية من منصبه وإخضاع مؤسسات الدولة وإسقاط النظام. فقاموا بالاشتباك بشكل عنيف مع الحرس الجمهوري؛ حول مقر إقامة الرئيس باتريس تالون فى كوتونو العاصمة الاقتصادية لبنين؛ ووفقا لتصريحات الأمين العام للحكومة البنينية إدوارد أوين أورو؛ ومحاضر اجتماع مجلس الوزراء الطارئة؛ أن الهدف الرئيسى للمحاولة فى البداية كان تحييد واختطاف بعض الجنرالات وضباط كبار فى الجيش، وأن المتمردين الذين نفذوا تمردهم فى قاعدة توغبين فى العاصمة استطاعوا بالفعل اختطاف رئيس أركان الحرس الوطنى فايزو غومينا؛ والجنرال أبو عيسى رئيس أركان الجيش وآخرين ولكن أطلق سراح الرجلين فى نهاية المطاف فى «تشاورو»؛ وهى مدينة مركزية تقع على بعد أكثر من 350 كيلومترًا من كوتونو، وذلك بعد أن حاصر الجيش قاعدة توغبين؛ وتم القبض على عدد من المتمردين وفر قائدهم وآخرون مع بعض الرهائن، وتمت السيطرة على الانقلاب من خلال تنفيذ ضربات جوية محدودة ودقيقة دون تعريض الأحياء المحيطة للخطر. وكانت الحكومة البنينية قد تلقت مساعدة عسكرية سريعة من الجيش النيجيري؛ ومن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «إيكواس»، التى أعلنت نشر جنود من أربع دول فى المنطقة وتتمركز هذه القوات حاليا فى قاعدة توغبين التى تم استعادتها. الغرب الأفريقي بدأت موجة الانقلابات المتسارعة فى أغسطس 2020 فى مالي؛ حيث قادت عناصر من القوات المسلحة المالية تمردًا وقاموا بعد ذلك بانقلاب؛ واقتحم جنود على متن شاحنات صغيرة قاعدة سوندياتا العسكرية فى بلدة كاتي؛ وتم تبادل إطلاق النار قبل توزيع الأسلحة واعتقال كبار الضباط وشوهدت دبابات ومركبات مدرعة فى شوارع البلدة بالإضافة إلى شاحنات عسكرية متجهة إلى العاصمة باماكو؛ واحتجز الجنود العديد من المسئولين الحكوميين بمن فيهم الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا الذى استقال وحل الحكومة، وكان هذا هو الانقلاب الثانى فى البلاد فى أقل من 10 سنوات بعد انقلاب 2012. كما وقعت محاولة الانقلاب فى النيجر عام 2021 فى 31 مارس بعد اندلاع إطلاق نار فى شوارع نيامى عاصمة النيجر قبل يومين من تنصيب الرئيس المنتخب محمد بازوم؛ ودبرت المحاولة من قبل عناصر من الجيش ونسبت إلى وحدة تابعة للقوات الجوية متمركزة فى منطقة مطار نيامي؛ لكن تم إحباطها وألقى القبض على الانقلابيين. وأعقبه أربعة انقلابات فى عام 2021 فى تشاد ومالى وغينيا والسودان؛ واستهل عام 2022 بانقلاب بوركينا فاسو فى 24 يناير؛ حيث اندلع إطلاق نار أمام المقر الرئاسى فى العاصمة البوركينية واجادوجو والعديد من الثكنات العسكرية حول المدينة. وأفادت التقارير أن الجنود سيطروا على القاعدة العسكرية فى العاصمة؛ وأنكرت الحكومة وقتها وجود انقلاب نشط فى البلاد؛ وبعد عدة ساعات أفادت التقارير أن الرئيس روش مارك كريستيان كابورى قد احتجزه الجنود فى المعسكر العسكرى فى العاصمة. وأعلن الجيش على شاشة التليفزيون أن كابورى قد عزل من منصبه كرئيس، بعدها أعلن الجيش حل البرلمان والحكومة، وفى الأول من فبراير وقعت محاولة انقلاب فى غينيا بيساو؛ وبعد ساعات قليلة أعلن الرئيس عمر سيسوكو إمبالو انتهاء الانقلاب، وقال إن العديد من أفراد قوات الأمن قتلوا فى هجوم فاشل ضد الديمقراطية. وفى نفس العام وقع انقلاب آخر فى بوركينا فاسو فى 30 سبتمبر أطاح بالرئيس المؤقت بول هنرى سانداوغو داميبا؛ بزعم عجزه عن مواجهة التمرد الإسلامى فى البلاد وكان لعام 2023 النصيب الأكبر من الانقلابات؛ حيث بدأ العام بتمرد معقد فى السودان من قوات الدعم السريع شبه العسكرية (RSF) بقيادة حميدتى الذى يقود تحالف الجنجويد الأوسع؛ كما شاركت العديد من الجماعات المسلحة الأصغر حجمًا تسبب الصراع فى نزوح ما يقرب من 12 مليون شخص قسرًا سواء داخل السودان أو عبر حدوده مما جعلها واحدة من أكبر أزمات النزوح فى التاريخ. وأعقبه انقلاب النيجر فى يوليو 2023؛ والجابون فى أغسطس 2023، ومحاولة انقلاب بوركينا فاسو فى سبتمبر 2023؛ واختتم العام بمحاولة انقلاب فى غينيا بيساو فى 30 نوفمبر 2023؛ حيث اندلعت اشتباكات فى بيساو العاصمة بين القوات الحكومية ووحدات من الحرس الوطنى أطلقت سراح وزيرين متهمين بالفساد من الاحتجاز؛ وأدت الاشتباكات إلى اعتقال قائد الحرس الوطنى العقيد فيكتور تشونغو. ووصف الرئيس عمر سيسوكو إمبالو الأحداث بأنها محاولة انقلاب؛ وعقب الاشتباكات أمر «إمبالو» بحل المجلس التشريعى للبلاد، وكان عام 2024 هو العام الأكثر سلاما على منطقة الغرب الأفريقى هدأت فيه الانقلابات بشكل ملحوظ حتى أكتوبر 2025؛ ليعيد الانقلاب الملغاشى فى 12 أكتوبر المنطقة إلى بؤرة الصراع من جديد؛ إذ أطاحت وحدة كابسات وهى وحدة نخبة تابعة للقوات المسلحة فى مدغشقر بحكومة الرئيس أندريه راجولينا فى ذروة حركة احتجاجية بدأت فى أواخر سبتمبر؛ حثت الوحدة بقية أفراد الجيش على الانضمام إليها وتم الاستيلاء على العاصمة أنتاناناريفو دون مقاومة تذكر وعزل رئيس مجلس الشيوخ. وقبلت السلطات المدنية مرشح كابسات لرئاسة القوات المسلحة؛ وفى 26 نوفمبر الماضى ألقى القبض على رئيس غينيا بيساو عمر سيسوكو إمبالو فى إطار انقلاب نفذه رئيس المكتب العسكرى للرئاسة العميد دينيس إنكانها، أعلن ضباط الجيش السيطرة الكاملة على البلاد وأنشأوا القيادة العسكرية العليا لاستعادة الأمن الوطنى والنظام العام بقيادة الجنرال هورتا إنتا أنا مان؛ وقع الانقلاب قبل يوم واحد من الإعلان الرسمى عن نتائج الانتخابات العامة فى غينيا بيساو لعام 2025 ليختتم العام بمحاولة انقلاب فاشلة فى بنين. حزام الانقلابات تعكس الانقلابات المتكررة فى غرب أفريقيا؛ أزمة ثقة متنامية بين الشعوب والأنظمة؛ وتكشف فى الوقت ذاته عن هشاشة البنى السياسية أمام التحديات الأمنية والاقتصادية؛ ويبرز فى هذا السياق المصطلح الجيوسياسى المستحدث حزام الانقلاب؛ الذى صيغ خصيصًا لوصف هذه المنطقة بالتحديد ليعكس بعدًا أعمق يتمثل فى تأثير الإرث الاستعمارى على استقرار الأنظمة السياسية بعد الاستقلال؛ فمعظم الدول التى خضعت للاستعمار الفرنسى باستثناء السودان اعتمدت أنظمة رئاسية قوية تميل إلى الاستبداد؛ حيث تتركز السلطة فى يد الرئيس وحده مما أضعف المؤسسات التشريعية والقضائية وجعل النظام هشًا أمام تدخل الجيش وإلى جانب ذلك استمر الاعتماد الاقتصادى على فرنسا عبر الفرنك الأفريقى والدعم المباشر وهو ما رسخ حالة من التبعية الاقتصادية؛ حدت من استقلال القرار السياسي؛ كما ساهم غياب الشفافية وضعف القدرة على مواجهة التهديدات الأمنية؛ خاصة فى منطقة الساحل التى تحولت إلى بؤرة لعناصر الإرهاب الدولي؛ فى تعزيز مبررات تدخل الجيش باعتباره المنقذ. الإرث الفرنسى الواقع فى غرب أفريقيا يدعم الرأى القائل بأن الانقلابات فى أفريقيا الناطقة بالفرنسية؛ هى نتاج بنية سياسية واقتصادية وعسكرية مرتبطة بالإرث الفرنسي؛ وعلى النقيض من الدول الناطقة بالإنجليزية التى استفادت بدرجة أكبر من نموذج مؤسسى أكثر توازنًا ما جعلها أقل عرضة للانقلابات العسكرية الممنهجة. منطقة الساحل يعد الإرهاب فى منطقة الساحل والانقلابات فى دول غرب أفريقيا وجهين لأزمة واحدة تتمثل فى هشاشة الدولة وضعف مؤسساتها؛ الإرهاب غالبًا ما يستغل كذريعة لتبرير الانقلابات العسكرية؛ تؤدى هذه الانقلابات بدورها إلى إضعاف الدولة وتعزيز بيئة خصبة لتمدد الجماعات المتطرفة؛ مما يكرس حلقة مفرغة تبقى المنطقة عرضة للتدخلات الخارجية والصراعات طويلة الأمد. تعد منطقة الساحل الأفريقى اليوم من أخطر بؤر الإرهاب عالميًا؛ تتركز أنشطة الجماعات الجهادية المسلحة فى مالى والنيجر وبوركينا فاسو؛ وتمتد تهديداتها إلى دول خليج غينيا مثل بنين وتوغو وساحل العاج؛ ما يهدد الأمن الإقليمى بشكل واسع فقد سجل بين يناير ونوفمبر 2025 أكثر من 450 هجومًا إرهابيًا فى غرب أفريقيا معظمها فى الدول الثلاث. ووفقًا لمؤشر الإرهاب العالمى لعام 2025 شكلت منطقة الساحل 51 % من إجمالى الوفيات المرتبطة بالإرهاب عالميًا خلال نتيجة عمليات نفذتها جماعات مثل تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامي؛ وداعش فى الصحراء الكبرى إلى جانب جماعات محلية متحالفة مع التنظيمات الدولية العابرة للقارات.