صلاح حافظ يكتب عن «مدينة الموهبة»: يبدأ اليوم العام السادس والخمسون من حياة هذه المجلة! ولم يحدث طوال هذا العمر المديد أن تمتعت بأى استقرار؛ سواء فى شكلها، أو موضوعها، أو قيادتها، أو أقلامها، أو توزيعها.. أو حتى سياستها! الشىء الوحيد الذى كان، ولايزال، ثابتًا فى كافة عهودها هو الرسالة التى اختارتها: رسالة التنوير. كانت دائمًا مع العلم ضد الخرافة. ومع الجديد على حساب القديم. وفى صف المستقبل الذى لم تبزغ شمسه بعد. وكانت الأفكار الجديدة، والأقلام الجديدة، تولد دائما على صفحاتها، وتقضى سنوات وهى تقاتل معركة الاعتراف بها. ويوم يتم هذا الاعتراف تهاجر إلى صحف أخرى. وتترك مكانها لأفكار وأقلام جديدة! ولأن الحياة لا تكف عن التطور، ولا يمضى يوم فيها دون أن تفرز جديدًا. فقد كان محالًا أن تستقر «روزاليوسف» على حال. وسيظل قدرها ألا تستقر إلا إذا تخلت – والعياذ بالله – عن ارتباطها التقليدى بحركة الحياة، والتزامها برسالة التنوير بحقائق الحاضر، والتبشير بحقائق المستقبل. ولكن.. من الذى اختار لروزاليوسف أن تكون هذه رسالتها. وقدرها. وحكم عليها بألا تتمتع أبدًا بالاستقرار؟ إنه بالتأكيد السيدة التى أسستها: فاطمة اليوسف! كانت عقيدتها الشخصية أن الحاضر دائمًا أفضل من الماضى، وأن المستقبل سيأتى بما هو أفضل من كليهما. وكانت تتحمس دائمًا للقلم الجديد، والريشة الجديدة، والفكرة الجديدة. ولم يحدث طوال حياتها أن تكلمت عن «العودة» إلى أى ماضٍ مجيد. ولم يضبطها أحد تقول ولو مرة واحدة : يا سلام على أيام زمان! وكان هذا وحده، ولا شىء غيره، هو السبب فى السمة التى انفردت بها مجلة «روزاليوسف»، واللقب الذى اعترف لها به كافة نجوم الصحافة فى مصر: لقب «مدرسة الصحافة المصرية». ومع ذلك، فهذه السيدة لم تكن أصلًا، ولم تكن أبدًا، صحفية! كانت فنانة، نعم ممثلة مسرحية نابغة، نعم مولعة بالقراءة، نعم، لكنها لم تكن صحفية حاذقة، ولا كاتبة موهوبة، ولم يكن التعبير بالقلم مهنتها، ولا هى حاولت أن تمارسها. كانت كل صلتها بمهنة الصحافة أنها آمنت بها، واحترمتها، أحبت الدور الذى تقوم به، فوظفت ذكاءها وقدراتها فى خدمته! وليس هذا شيئًا غريبًا على أية حال. فما أكثر ما استفاد الطب من جهود أشخاص خدموا رسالته دون أن يكونوا أطباء. وما أكثر الذين خدموا الفنون التشكيلية دون أن يكونوا رسامين، وما أكثر الذين أوقفوا جهودهم. وأموالهم على تطوير عِلم أو فن أحبوه دون أن يمارسوه، وآمنوا برسالته دون أن يكونوا من خبرائه أو حتى من تلاميذه. وقد كان من هؤلاء السيدة فاطمة اليوسف. لم تكن صحفية، ولا كاتبة، ولكن سرها كان الإيمان الحقيقى الراسخ المطلق برسالة الصحافة والكتابة. كانت عاشقة وكانت الصحافة رجلها المعشوق. وفى سبيله هانت عليها كل تضحية؛ سواء بعملها المسرحى، أو بقروشها التى لا تملك غيرها، أو براحتها كامرأة جميلة يمكن أن تستقر فى بيت زوج بالغ الثراء، أو حتى بسمعتها التى أصبحت عرضة للتجريح منذ صارت لها صحيفة تجلب عليها المتاعب والخصومات، وتعرضها للضرب تحت الحزام، وبكافة الأسلحة الأخلاقية واللا أخلاقية. وقد نجح هذا الإيمان وحده. وهذا العشق الحقيقى لمهنة الصحافة، والاحترام الحقيقى لها.. فى أن يصنع من المجلة (التى قيل يوم صدورها أنها مجرد نزوة لصاحبتها) مدرسة للصحافة المصرية، ينتمى إليها ويعتز بالتخرج فيها معظم نجوم هذه الصحافة على امتداد نصف القرن الماضى بأكمله. وفى اعتقادى أن هذا الدرس يفيدنا اليوم كثيرًا ونحن نتأهل لإعادة صياغة الصحافة المصرية فى ظل قانونها الجديد، ونحاول – كما نقول – أن نتلافى عيوب تجربتها المريرة منذ ثورة يوليو عام 1952. إن النقد الشائع لهذه التجربة يكاد يتلخص فى أن أمور الصحافة قد عهد بها إلى غير الصحفيين. وأن المتاعب كان مصدرها جهل هؤلاء بالمهنة وعجزهم عن فهم أسرارها وحاجاتها ومقتضياتها. وهذه النظرية نفسها هى التى حكمت موقف الصحفيين من القانون الجديد. وجعلتهم يضيقون بوجود أشخاص لا يعملون بالصحافة داخل المجلس الأعلى للصحافة، ويتمسكون بأن تكون الأغلبية فى هذا المجلس للصحفيين.. إذا تعذر أن يكون المجلس كله منهم. فهل هذه النظرية صائبة؟ الواقع أن الصحافة مهنة تتصل خيوطها بكافة مؤسسات المجتمع، وكافة فئات الرأى العام ويفيدها كثيرًا ألا تنغلق على نفسها، وأن تسمح لكافة المؤسسات والفئات أن تشاركها تخطيط عملها، ومهامها، وسياستها. ولكن المشكلة هى أن الذين اختارتهم الدولة فى الماضى للمشاركة فى قيادة الصحافة، من خارج أبنائها، كانوا بصفة عامة من الكارهين لها.. والمؤمنين بأن العالم يكون أفضل كثيرًا لو لم تكن فيه صحافة! عينت الثورة، فى بدايتها، وزيرًا من مجلس القيادة ليتعامل مع الصحافة. وإذ به فى أول زيارة يقوم بها لجريدة «المصرى» الوفدية السابقة ينذر كاتبًا كبيرًا مشهورًا بأنه «سيقطم رقبته» إذا لم يرتدع عما يكتبه! واكتشفت الثورة أنها فى حاجة إلى مجلة تنطق باسمها. فتطوع عدد كبير من الصحفيين بإصدار هذه المجلة، بقيادة ضابط من الثوار، وإذا بمجلس الثورة يفصله، ويرسل ضابطا آخر يعلن – من البداية – أنه جاء يؤدب هؤلاء الصحفيين، ويلزمهم مكانهم! ثم بدأت الثورة تزحف، بخطة منظمة، على الصحف وتفرض فى كل صحيفة ممثلًا لها، مطلق السلطة والسلطان، ولكن هذا الممثل كان فى معظم الأحوال كارهًا للصحافة أصلا. ومؤمنًا بأن مهنته الأولى هى تأديب الذين يصدرون الصحيفة.. وتلمس الأعذار لطردهم إلى مهنة أخرى محترمة! وقد كان ربع قرن من هذه التجربة كافيًا لإصابة الصحفيين بالأرتيكاريا ضد الغرباء المفروضين على المهنة. وجعلهم يكرهون مقدمًا أى تنظيم يشرك فى القيادة غير الصحفيين.. مع أن حيوية الصحافة تتوقف أساسًا على مساهمة المجتمع كله فى تحريرها وقيادتها! وهى حين تتمسك بأن يتولى شئونها أبناؤها وحدهم، لا تفعل ذلك من باب التعصب للمهنة.. ولكن كى تضمن أن يقودها على الأقل مؤمنون بها، ومحترمون لها، لا خصوم يكرهونها فى أعماقهم ويضيقون بمجرد وجودها.. ويعتبرون رسالتهم فى الحياة تأديبها ومنعها من أداء دورها. والدليل على هذا أن مجلة «روزاليوسف» لم تكره أبدا أن ترأسها السيدة فاطمة اليوسف. ولم تشعر بخسارة قدر التى شعرت بها يوم رحلت هذه السيدة عن الحياة. ولم يخطر ببال صحفى واحد فى المجلة أن يتساءل عن مدى علاقة صاحبتها بالمهنة. ولم يشك أحد طوال نصف القرن الماضى فى عظمة الدور الذى أدته لصالح الصحافة. ولو أن «الغرباء» الذين فرضتهم الثورة على الصحافة كانوا من طراز السيدة فاطمة اليوسف، وكانوا مثلها عاشقين فى معبد الكلمة، ومؤمنين برسالة الصحافة، ومبهورين بدورها، وراغبين فى خدمتها.. لما خطر ببال الصحفيين أصلا أن يتمسكوا بعدم اشتراك أى «دخيل» من خارج المهنة فى إدارة شئونها. ولكن الثورة مع الأسف لم تحسن اختيار ممثليها فى بلاط صاحبة الجلالة. وكان معظمهم من الطراز الذى يضيق بمجرد وجود الصحفى والأقلام على قيد الحياة. والسؤال الآن هو : هل سيثمر هذا الدرس عند تشكيل المجلس الأعلى للصحافة.. أم أن الخطأ سوف يتكرر ؟ أن هذا السؤال – بصراحة – هو الذى سيحدد مستقبل الصحافة المصرية فى ظل القانون الجديد. ومستقبل القانون نفسه فى التطبيق. فالقضية ليست أصناف الناس الذين سيتشكل منهم المجلس. وليست انتماءهم إلى مهنة الصحافة أو غربتهم عنها. وإنما القضية هى موقف هؤلاء الناس – مهما تكون مهنتهم – من الصحافة. وهل هم معها أم يكرهونها. وهل هم يحبونها أم يكرهونها. وهل هم يحترمونها أم يستخفون بها، وهل يعتبرونها نعمة أم يعتبرونها نقمة، وهل يحلمون بها أقوى وأعز وأقدر.. أم يعتبرون رسالتهم ترويضها وإخضاعها، وانتهاز الفرص للفتك بها. وبكلمات أخرى: هل سيكون غير الصحفيين من رجال المجلس من طراز السيدة فاطمة اليوسف، التى خلقت أهم مدرسة صحفية فى مصر وهى غير صحفية.. أم سيكونون امتدادا لطابور الكارهين للصحافة والمؤمنين بأن ضررها اكثر من نفعها، وبأن رسالتهم فى الحياة هى محاصرة شرورها.. هذه هى القضية فى صميمها. والصحافة المصرية لن تكره أبدًا أن يشارك فى شئونها مهندسون ومحامون.. وفلاحون أيضًا. ولكن إذا كان المهندس راغبًا فى أن يبنى بيتها لا أن يهدمه، والمحامى راغبًا فى أن يحمى حقها لا أن يخذله. والفلاح راغبًا فى أن يجمل حديقتها بالزهور، وراغبًا فى تزويدها بالماء النقى حتى لا تظمأ فى رحلتها الطويلة وراء الحقائق التى تريد أن تنور بها الناس.. نشر هذا المقال بمجلة «روزاليوسف» فى 27 أكتوبر من العام 1980.. تحت عنوان: من السيدة فاطمة اليوسف إلى المجلس الأعلى للصحافة!