اللغة ليست المكتوبة ولا المسموعة فقط، بل هناك أيضًا لغة الجسد، وهى ما يحدثه جسم الإنسان من انفعالات وحركات إرادية ولا إرادية أثناء الحديث وإلقاء الخطابات، ولكل حركة تفسير ما بين الخوف والرعب والثقة فى النفس والغرور والصدق والكذب. الدبلوماسيون والرؤساء يسعون دائمًا لضبط النفس لإخفاء مشاعرهم الحقيقية، إلا أنه قد تتغلب عليهم مشاعرهم فتنضح بالحقيقة، التى تظهر فى صورةٍ حركية، ورغم أن أغلب رؤساء الدول وأصحاب المناصب المرموقة يلجأون دائمًا إلى الخطب المجهزة بعناية ومستويات الصوت القوية التى تتناسب مع قوة مناصبهم فإن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لم يكن كباقى الرؤساء سواء فى خطاباته التى ألقاها بنفسه، أو فى حديثه المرتجل وحركات جسده وهيئته التى احتار فيها الكثيرون من خبراء لغة الجسد، فالسفير بادو قال: «إنه كان رجلاً تشعر على الفور وبمجرد جلوسك إليه بقدراته القيادية غير العادية، وقد كانت أفكاره واضحة لا غموض فيها، كما كان دائمًا واثقًا فى نفسه وهو يتعامل مع قوة عظمى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية، ليس لديه ذرة شك فى عدالة قضيته». تتجه كثير من أجهزة الاستخبارات إلى مسلك تحليل لغة الجسد، لمعرفة ما يخفيه الرؤساء، وربما هناك من يستعيد خطابات الرجل فى محاولة لمنع تكرار نموذج «ناصر» مرة أخرى. د. رغدة السعيد خبيرة لغة الجسد، تحدثت معنا عن صفة الكاريزما التى التصقت بالرئيس الأسبق جمال عبدالناصر. دائمًا اسم عبدالناصر ملتصق بكلمة كاريزما، وهناك صفة أكثر الرؤساء «كاريزما».. هكذا بدأت «السعيد» حديثها فى تحليل لغة جسد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأوضحت أن معظم من خلفوا «ناصر» كان لهم كاريزما قوية إلا أن عبدالناصر كانت كايزمته طاغية. كلمة «كاريزما» تعنى القبول بالمعنى المبسط ولها أنواع مختلفة، وتمتع جمال عبدالناصر بأغلب هذه الأنواع، وأهمها كاريزما البدلة العسكرية، ومن ثم كاريزما الموقف التى لطالما تمتع بها، وتجسدت فى القيام بثورة 23 يوليو، وهى كاريزما طاغية، لدرجة أن معظم الناس يفوت عليهم أنه كان هناك رئيس قبل «عبدالناصر» وهو محمد نجيب، ويشبه فى كاريزما الموقف الرئيس عبدالفتاح السيسى فى تعامله مع الإخوان الذى منحه كاريزما الموقف أيضًا. أما عن الكاريزما الشخصية، فقد كان شخصية تحظى بصفة الزعامة والقيادة، وكان ذلك واضحًا من خلال خطاباته وأغلبها كانت أمام الشعب ليحدث طاقة متبادلة بينه وبين الحضور من الجماهير، مما يجعل أغلب خطاباته شعبوية. تمتع جمال عبدالناصر - حسبما قالت «السعيد»- بالصوت المموج الهادئ والذى اختلف عن طبيعة هيئته الضخمة، هذا الصوت الهادئ عبر عن الجزء العاطفى فى شخصيته، رغم أنه شخصية بصرية يتحدث كثيرًا وأفكاره جميعها حاضرة ومرتبة. كان فى خطاباته وقفات تدرس، ورغم أنه كان يصدر قرارات شديدة الصرامة وفيها الكثير من توحد الرأى وربما الديكتاتورية فإن الشعب كان يعشق قراراته ويتقبلها بكل حب لأن هذه الصرامة وقوتها كانت تمنح الشعب نوعًا من الطمأنينة. يمكن توضيح وقفاته العبقرية فى خطاب تأميم قناة السويس الذى أطلق فيه قراره على الشعب كالقذيفة إلا أنه وقف ثوانى يترك مساحة للعقل وشغف الشعب ليتفاعل مع القرار، فهو شخصية كانت تستخدم الوقفات كمفتاح مهم جدًا فى تمرير الكثير من القرارات. اتسمت شخصيته ولغة جسده بالحس الفكاهى الذى ظهر كثيرًا فى أحاديثه وبشكل واضح فى خطاب المعونة الأمريكية، وكان له ضحكة تهكمية معروفة فى أغلب خطاباته، - وبحسب السعيد - فإنه اعتمد دائمًا على استخدام مفردات الشعب العادى كجملة «على الجزمة»، فرغم أنها كلمة صادمة لا يمكن أن تصدر عن رئيس دولة فإن الشعب كله تفاعل مع المصطلح تفاعلاً بالغًا لأنه كان يتمتع بالذكاء الاجتماعى الكافى. لم يكن مصطلح لغة الجسد قد ظهر فى فترة حكم «ناصر» إلا أنه كان لديه ذكاء ودهاء اجتماعى بالفطرة كان يمزجهما مع لغة جسده دون أن يعى ذلك، وكان ينعكس تأثيره على كل الحضور، ودائمًا فى خطاباته كلمات صارمة تنعكس على الشعب وتعطيه إيحاء القوة والثقة بالنفس. اعتمد على حس الفكاهة أيضًا، فى خطاباته عن الإخوان، وعندما طلب نائبهم فرض الحجاب على النساء، مزج حس الفكاهة بحديثه ليجعل الشعب ذاته يطلق ما يجب أن يقال وليس هو، وظهر ذلك واضحًا عندما قال للشعب وكأنه يحكى حكاية وليس خطابًا: «أنا قولت له ابنتك ليست محجبة فإذا كنت لا تستطيع أن تفرض عليها ذلك كيف لى أن أفرض على 10 مليون الأمر»، ما دفع أحدًا من الحضور يتحدث هو بلسانه ويقول: «يلبسه هو»، وهنا كان دهاء ناصر واضح، وأظهر الطاقة المتبادلة بينه وبين الجمهور فمع كل هتاف أو ضحك من الشعب فى الخطاب كان يُلاحظ ارتفاع درجة صوت عبدالناصر وزيادة حماسته فى الكلمة التى تلى الهتاف أو الضحك. الحس الفكاهى فى خطابه كان نوعًا من أنواع التقرب إلى الشعب المعروف بالفكاهة والعاطفة، والرئيس الأسبق حسنى مبارك لم يكن يملك كاريزما فكان يعتمد فى أغلب خطاباته على الفكاهة، وكان عبدالناصر أول من ابتدعها من الرؤساء. تمتع عبد الناصر ب«أنا» عالية ويظهر ذلك فى خطاب التنحى فرغم أنه كان يلقى الخطاب بصوت ضعيف وهادئ ممزوج بالحزن إلا أنه ذكر كلمة عبدالناصر ما يزيد على 4 مرات فى الخطاب، لكن ميزة «الأنا» لديه أنها لم تقترب من «النرجسية» على الإطلاق، وهى ما أصيب به الرئيس الليبى الراحل معمر القذافى والرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب، فى خطاباتهما. وتيرة صوت عبدالناصر كانت الأفضل فى العمل السياسى، فتراوحت بين الارتفاع والانخفاض - والكلام لايزال للسعيد - والعاطفة يتفاعل معها الشعب حتى فى خطاباته المقروءة والتى كانت تجعل الأشخاص مشتاقين للسمع، وكل الظروف التى أحاطت بعبدالناصر مهدت الأمر له ليكون زعيمًا، والقوة الإيحائية فى شخصيته جعلت الشعب كله يشعر بالقوة والعزة والكرامة. فى خطاب التنحى، بعد هزيمة 67، نزلت الجموع إلى الشارع ترفض تنحى جمال، وبالنظر إلى من بكوا فى تنحى مبارك فى 2011، فإن الشعب فى 1967 كان يشعر بالضياع، لكنه تمسك بناصر ثقةً فيه. الخطاب السياسى فى مصر من أول عبدالناصر إلى الآن يعتمد على 80 % عاطفة و20 % عقل، فكان عبدالناصر يشارك الشعب ويشعره بالمسئولية ويمزج ذلك جيدًا فى خطابه، وكان يفعل ذلك بحرفية غير معهودة، وكأنه جالس يحكى معهم. كثير من الرؤساء كان يتدرب على اصطناع لغة جسد، والوقفات الكثيرة، وهو ما ظهر فى خطاب الرئيس الأمريكى السابق «أوباما»، الذى ألقاه فى جامعة القاهرة، عام 2009، لكن «عبدالناصر» فعلها بالفطرة دون تدريب أو دراسة، ووجد أنها ناجحة مع الشعب فأكمل فيها. خطابات عبد الناصر غير المقروءة كانت أقوى بكثير من الخطابات المكتوبة، وكان تأثيرها واضحًا على الشعب المصرى لأنه كان يحب ارتجال عبدالناصر الذى يصل إلى الوجدان وهذا الأمر يمنح ناصر الطاقة المرتفعة، لكن مؤخرًا الشعب أصبح يفضل الخطابات القصيرة العقلانية. ظهر من لغة جسده أنه لا يخشى أحدًا، وظهر ذلك واضحًا فى خطابه عن الإخوان واستخدامه لغة التهكم بذكاء حاد، كان لديه «لزمة» لا يمكن قراءتها، ولكن لها إيحاء وهى التقدم بكتفه إلى الأمام والرجوع مرة أخرى أثناء الحديث وهو ما يمنح من حوله الشعور بالتفاعل، وبالتالى كانت لغة جسده فى الأغلب إيجابية، وضحكته ذكية وبها عظمة ودهاء، ولغة جسده عسكرية، مفيده دائمًا مغلقة للداخل فى حركة دفاعية.