يمكنك أن تصف فتح ملف تجديد الخطاب الدينى بأنه تأخر نحو أربعة عقود. ولماذا أربعة على التحديد؟ ببساطة لأن الخمس سنوات الأخيرة من عهد الرئيس الراحل أنور السادات شهدت صعود تيارات التأسلم السياسي، وتسربت الوهابية مظهرًا وفكرًا إلى الوجدان الجمعى المصري، وبدا واضحًا أن المشهد السياسى فى حاجة إلى مقارعة الحجة بالحجة، حتى لا تنسحب البلاد إلى هوة الإرهاب.. لكن هذا لم يحدث، ربما لعدم وجود رغبة سياسية.
وما إن دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي، منذ ما يقرب من عامين ونصف العام، علماء الأزهر الشريف، ورجال الإفتاء، وقيادات وزارة الأوقاف، لتجديد الخطاب الديني، بسبب التشدد الذى يموج فى الشارع، والإرهاب الذى يفتت البلاد، والتكفير الذى أصبح الشريعة المتحكمة، حتى أصبح الموضوع «موضة» يهرع رجال الدين إلى اتباعها.. فما هى إلا أيام حتى افتتح وزير الأوقاف، الدكتور محمد مختار جمعة، مزاد تجديد الخطاب الديني، «تفكيك الفكر المتطرف»، بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وتكلم فى الموضوع، كل من هب ودب، وازدحمت الفضائيات بأصحاب العمائم الذين يندبون الركود الذى أودى بالأمة إلى التخلف. لكن شخصًا واحدًا لم يتكلم، رغم كونه الأحق والأجدر بالكلام، باعتباره المرجعية الدينية الأبرز فى مصر، وهو الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر. فهل الإمام مع التجديد، أم لا؟.. هل حدد مناطق التجديد ومناطق عدم التجديد فى الشريعة؟.. هل عقد لجانا علمية لبحث الموضوع؟.. وهل وهل وهل؟ لا.. إجابة تشفى الصدور. استمر صمت شيخ الأزهر على هذا المنوال، حتى أصدر مجلس حكماء المسلمين، منذ فترة قريبة، للإمام الأكبر، كتاباً، حمل عنوان التراث والتجديد، تحدث فيه «الطيب» عن التجديد، لكن بلغة مقتضبة، بدون إطناب ولا شرح وافٍ. واستهل شيخ الأزهر كتابه بمقدمة، تدل على مراد الإمام الأكبر، فقال: «إن تجديد التراث الإسلامى لا يحسنه إلا عالم ثابت القدمين فى دراسة المنقول والمعقول، فاهم لطبيعة التراث ولطبيعة المناهج وأدوات التحليل الفكرى المستخدمة فى البحث والتقصى». لكن ما هو التجديد مفهومًا عند الطيب؟ بعيدًا عن حقيقة أن الكتاب لم يخض معركة حقيقة تجاه الأفكار الدينية المغلوطة، ولم يتطرق حتى إلى الخطاب «الداعشى» الذى تعانى منه الأمة بأسرها، ما يجعله مطبوعة تتحدث فى الخطوط العامة والعريضة، يبدو أن مفهوم التجديد لدى الطيب فيه قدر من الالتباس ولا نقول الجمود، فالرجل يقول حرفيًا: «لا أرى أن التراث هو المحرك لتصرفاتنا، والمسئول الأول والأخير عن أزماتنا المعاصرة، بل أستطيع أن أنطلق من نقيض هذه الدعوي، وأزعم أننا لا نستلهم تراثنا الإسلامي، فى كثير مما نفعل أو نترك.. وإلا فأين أمتنا العربية من هذا المجتمع الذى تنضبط قواعد حياته على أصول الحلال والحرام فى التراث»؟ ومن المقدمة يمكن أن نلمس منهج الإمام الأكبر فى طريقة تعامله مع موضوع «التجديد»، هذا إذا عرفنا أنه يرد بطريق أدبى وشرعى على كل من خاض فى هذا الموضوع المعقد والمهم. وتتمثل شروط المجدد عند «الطيب» فى: أنه يكون هذا الشخص عالما بالتراث وفاهما لطبيعته، أى الظروف والملابسات التى أحاطت بهذا بمنتج الفقهاء الشرعي، كذلك نجده يقول: «طبيعة المناهج»، وهو كيفية النظر فى الدليل وطريق استدلاله على الأحكام الشرعية، ودرجة الدليل وموقعه من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة»، هذا غير أدوات التحليل الفكري. واشتبك «الطيب» فى بداية كتابه مع الاشتراكية، التى يقصد بها فترة الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، معتبرًا إياها السبب فى تدهور الأزهر وتراجع مستواه الفكري، ومكانته فى الشارع، فنجده يقول: «بلغ تأثير المعسكر الاشتراكى فى هذا الوقت مبلغ التدخل المباشر فى المؤسسات الدينية وتقييم أدائها ورصد مدى ملاءمتها للتيار الاشتراكى الذى كان يمثل التوجه الاقتصادى والثقافى للدولة آنذاك». واستشهد شيخ الأزهر بواقعة لتدعيم كلامه، بأن المسئولين عن البلاد - حينذاك - عزلوا وزير الأوقاف وقتها، بسبب أن المعسكر الاشتراكى خاف أن يكون الأزهرى المعفى من وزارته عقبة فى طريق «المد الاشتراكى»، مضيفًا أن المنابر فى هذه الحقبة خضعت لخطبة موحدة، ترتبط بالواقع المادى للمجتمع وتدور معه حيث دار، موضحًا أن إحدى خطب الجمعة كان موضوعها «أسبوع المرور». واستعرض «الطيب» فى كتابه، ثلاث مدارس لتجديد الخطاب، بدأها ب«المدرسة السورية فى تجديد التراث»، ولخص شيخ الأزهر هذه المدرسة، بقوله: «إن الاتجاه البارز فى هذه المدرسة السورية هو: الاتجاه الماركسى اللينيني، ففى هذه المدرسة تكرست المادية التاريخية، أداة معلنة لاكتشاف التراث وتحليله». أما المدرسة الثانية، فهى المدرسة المغربية فى تجديد التراث، والتى وصفها «الطيب»، بأنها توقف شطرًا كبيرا من نشاطها على تحليل بنية العقل العربى وتكوينه. وأشار الإمام الأكبر، إلى ثلاثة محاور لهذا المنهج: الأول، البيان ويرادفه المعقول الديني، والثاني، البرهان (وهو الدليل) ويرادفه المعقول العقلي، والثالث العرفان ويرادفه اللامعقول العقلي. والمدرسة الأخيرة، عند الإمام الأكبر، هى المدرسة المصرية فى تجديد التراث، ووصفها «الطيب»، بأنها وسط بين المدرسة السورية والمدرسة المغربية، وحددها رئيس مجلس حكماء المسلمين بأنها المدرسة التى أطلقت على نفسها اسم «تجديد التراث»، واتخذت منه عنوانا خاصا بها، وفضلت أن تقف بالمشروع كله تحت لافتة جديدة وباسم مقصود هو «التراث والتجديد». وأوضح الطيب الفرق، بين مصطلحى «تجديد التراث»، و«التراث والتجديد»، فنجده يكشف عن المعنيين بقوله: «إن تجديد التراث يعنى التعامل مع التراث القديم كحقيقة موضوعية قابلة للتجديد، مع المحافظة على بقاء الأصول ثابتة، كما هو الحال فى كل عمليات التجديد». وأضاف: «بمعنى أن نفرق فى دائرة الموروث منتج العلماء الأصوليين»، بين ثوابت ومتغيرات، فنستبقى الأولى كما هي، وننطلق فى ضوء بقائها وثباتها إلى تجديد الثانية، وبهذا يتحقق التطور أمام ما يسمى: الأصالة والمعاصرة». واستكمل «الطيب» كلامه، بأن: «التجديد بالمعنى السابق لا يحقق الأهداف المقصودة لمدرسة «التراث والتجديد»، لأن التراث عند هذه المدرسة هو نقطة البدء، أما التجديد فهو إعادة تفسير التراث حسبما تقضى متطلبات العصر وحاجاته، بمعنى آخر التراث هو الوسيلة والتجديد هو الغاية». وفى نهاية كتابه، أفرد الإمام الأكبر، فصلا خاصا، تحت عنوان: «تعقيب»، ويعتبر زبدة الكتاب، فيقرر فيه الآتى: أن هناك فرقا بين التجديد والتغيير، فالأول يعنى الحفاظ على الأصول وإضافة إليها، ونفض ما يتراكم عليها من غبار يحجبها عن الأنظار، أما الثانى وهو التغيير، هدم وبدء جديد من فراغ يتم تحت أى مسمى إلا مسمى التجديد، اللهم إلا إذا كان القصد تغييب الوعى أو خداع الجماهير. وحلل «الطيب» قصة النتائج بقوله: «إن التراث والتجديد ينتهى بنا فى التحليل الأخير إلى المتاهات الآتية، الأولى: اعتبار الإسلام معطى تاريخيا، وواقعة حضارية، يهمنا منه ما نشأ بوصفه حضارة، وليس مصدره.. فتجديد التراث ليس البحث عن النشأة، بل عن التطور». والثانية، البداية العملية للتغيير تعنى البدء بالواقع واعتباره المصدر الأول والأخير لكل فكرة. أما الثالثة، تحريم عملية التغيير على الطبقة البورجوازية أو من ينتمى إليها، وإسناد المهمة بكاملها إلى الطليعة المنتسبة نفسيًا ونضاليًا إلى الطبقة العاملة. وأردف «الطيب»: «إن التراث والتجديد فى هذا الإطار، لا يعبر عن آمال الجماهير، بل جاء تعبيرًا عن آمال فئة محدودة العدد جدًا، وإلى الحد الذى يسقطها من النسبة والتناسب». واعترف شيخ الأزهر بقوله: «لا ننكر أننا فى حاجة إلى التجديد، بل مشكلتنا الأم هى غيبة التجديد، لكن شريطة الوضوح والفصل بين مجال الثوابت ومجال المتغيرات، والتفرقة الحاسمة بين أصول الدين، وتراث أصول الدين».