تستفزني وتصيبني بارتفاع في الضغط، وأعاني نوبات الصداع من الهوجة الإعلامية المصاحبة لتكريم الأمهات المثاليات.. ففي كل عام تتنافس الصحف والمجلات والقنوات التليفزيونية علي تقديم الأمهات المثاليات والضغط علي عواطف القراء والمشاهدين بالقصص المأساوية لكل واحدة منهن.. الأولي وقفت إلي جوار زوجها وعملت باجتهاد حتي حصل علي شهادته الجامعية وحصلت هي علي الطلاق ومسئولية أربعة أطفال كافحت من أجل تربيتهم وتعليمهم وحدها!! والثانية تزوجت رجلاً يكبرها في العمر، عاملها بقسوة وعندما توفي ترك لها أربعة أولاد من زيجة سابقة وأربعة منها.. وكافحت من أجلهم وحدها!! وأخري تزوجت صغيرة وطلقت صغيرة وأنجبت صغيرة وعاشت حياة بائسة من أجل أبنائها وتولت الإنفاق علي الأم والأب وعلي نفسها وأولادها وحدها!! هذه بعض الأمثلة فقط.. والقائمة طويلة.. وأنا لا أقلل من شأن هؤلاء النساء إنهن بطلات بكل معني الكلمة.. سيدات حاربن علي جبهة الحياة وحدهن بلا سند.. ولا سلاح.. ولا قوات دعم مادي ولا غطاء اجتماعي. وعندما عدن من ساحة المعركة يحملن آثار الجروح والندبات في هذه الحرب غير العادلة قررنا أن نضحك عليهن ونعوضهن عن الحياة التي راحت.. والصحة التي تدمرت.. والقلب الذي نزف.. بوسام المرأة المثالية.. يا سلام!! أين هي المثالية؟! هل المثالية أن آخذ عمر إنسانة وشبابها وصحتها وأحرمها من كل حقوقها كإنسانة بحجة أنها أم وعليها أن تضحي.. وتضحي.. وتضحي من أجل تربية أولادها.. في حين أن التربية مسئولية مشتركة للأب والأم وعندما يعجز أحد الأطراف لسبب أو لآخر تتدخل الدولة ويتدخل القانون لحماية الأطراف الضعيفة.. سواء كان رجلاً أو امرأة. ولكن مجتمعنا الشرقي يفضل أن يريح دماغه.. لسه حاندور علي دور الرجل.. والدولة.. والقانون؟ الست تشيل وحدها العبء وتضحي بعمرها كله.. ونعطيها وساما.. رغم أن هذا الوسام بصراحة صفعة علي وجه كل واحد منا.. صفعة لمجتمع لامبالٍ يروج لهذه الأفكار العقيمة.. صفعة لقانون ضعيف لا ينصف المرأة ويعطي لها حقوقها كي تعيش وتربي أولادها بكرامة.. صفعة لأنانية بعض الرجال الذين يتصورون أن تربية الأبناء مسئولية الأم فقط.. أذكر أنني كنت ضيفة في برنامج تليفزيوني مهم ومعي بعض الشخصيات المهمة أيضاً.. وفوجئت بأستاذ كبير يقول بفخر وهو مبسوط من نفسه جداً: إنه يقدر ويؤمن بقيمة المرأة "كلام جميل" ثم أكمل حديثه قائلاً: إن زوجته هي التي تولت تربية أولاده حتي تخرجوا في الجامعات، واعترف وهو يبتسم ابتسامة لا معني لها بأنه لم يعرف عنهم شيئاً طوال هذه السنين. وتعجبت.. هو مبسوط ليه؟! هل هو سعيد لأنه لم يقم بواجبه كأب.. ولعب دور البنك والممول المادي للأسرة؟!.. هل هو فرحان لأنه حرم نفسه من متعة الأبوة؟! هل هو فخور بنفسه لأن شخصا آخر تحمل عبء مسئولية تربية أولاده؟ والغريب أن الكل تحمس لموقف هذا الرجل وتوالت الاتصالات الهاتفية الكل يمجد موقف هذه المرأة موضحين أن هذا هو دور المرأة الحقيقي.. وعندما سألني المذيع عن رأيي قلت له وسط استنكار الجميع إن هذه النوعية من التربية تخلق أجيالاً من الشباب الأناني لأنه تعود علي الأخذ فقط.. وتصنع شباباً لا يصلح لبناء أسرة حقيقية لأنه يبحث دائماً عن أم تسيطر عليه وتقوده.. أو تضحي من أجله علي طول الخط.. فهو لم يعرف العلاقة السوية المبنية علي المشاركة والاحترام والمساواة.. أما الفتيات فإنهن يعشن حياة صعبة ومربكة.. فكل شابة تعاني من الإحباط لو ضحت بمستقبلها المهني من أجل أسرتها طمعاً في إرضاء المجتمع.. أو تعاني من تأنيب الضمير المستمر لو نجحت في عملها لأن الكل يشعرها أن نجاحها قام علي أنقاض الآخرين!! الأم المثالية في مجتمع صحي هي المرأة التي تنجح بمساعدة أسرتها ومساندة المجتمع بالقيام بواجباتها كأم وتحقق ذاتها كإنسانة.. وتحترم الهبة التي منحها الله لها وهي الحياة.