"هذا كلام فارغ وتخريف" قالها لى د.مصطفى محمود بإيمان وصفاء وروحانية حين طلبت منه التعليق على ما نشرته بعض الصحف حول ادعاء وجود علاقة له بالجن. روى لى وهو مضطجع فى فراشه ومعنا ابنته الحنون "أمل" المسئولة عن رعايته بأن بعض النساء كن يطلبن استشارته فى مشاكل اجتماعية، ثم تذكر بعضهن أنها تتعرض لإيذاء بسبب الجن، فكان رده الدائم هو الاستعانة بالقرآن الكريم وقراءته، وألا تحاول الدخول فى هذا المجال. وأضاف بيقين وصوت صادق: أما أنا نفسى فلم أحاول الدخول فى هذا المجال، فقد كان ما يشغلنى هو التبحر فى ربط العلم بالدين عبر كل المجالات: فى الفلك، فى الطبيعة، وفى جسم الإنسان. قلت له: من هنا خطورة ما تم نشره، فإن تتم نسبة الكلام حول علاقة بالجن إلى مفكر كبير مثلك بما لك من مكانة كبيرة عند القراء بمزجك الدائم للعلم بالإيمان، وبما لك من دور ريادى يشعر به البسطاء عبر "مسجد محمود"، فإن هذا يشوشر على مفهوم الإيمان، وأيضا على مفهوم العلم الذى طالما ناديت به، كما قد يؤدى إلى تبرير اللجوء للخرافات استنادا إلى ممارستها من شخصية موثوق فيها مثل الدكتور مصطفى محمود. - ضحك ضحكته التى تميز بها عندما كان عادة ما يعقب بها على ما يسرد فى برنامج العلم والإيمان. وقال: "ده غلب" وأضاف ناصحا: "لا داعى أبدا لأى إنسان أن يفكر فى مصاحبة الجن". ثم انتقل أيضا كمثل عادته فى برنامجه الشهير "العلم والإيمان" إلى نقطة أخرى وإن كان انتقاله إليها كأنه يقسم من خلالها على أنه لا يمكن أن يخالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: أنا من النسل النبوى، شجرة العائلة تشهد بذلك. "عند ذكره لهذه المعلومة أشارت لى "أمل" إلى لوحة كبيرة معلقة على الجدار وأخذت تقرأ لى منها شجرة العائلة، بينما وجه د.مصطفى محمود يرتوى بما تقرأه لى من أن شجرة العائلة التى على أطراف أفرعها الآن "مصطفى كمال" الذى هو نفسه "د.مصطفى محمود" باعتبار أنه من أصحاب الأسماء المركبة، نجد فى تتبع الشجرة والده "الشريف محمود" وتمر الشجرة ب "الحسيب" و"نصر الله" و"هديب" و"آل محفوظ" وصولا للأئمة الكبار "حسن العسكرى" و"موسى الكاظم" و"جعفر الصادق" و"محمد الباقر" و"على زين العابدين" ابن "الإمام الحسين" ثم السيدة "فاطمة الزهراء". خلال استغراق "أمل" فى الشرح لى حول شجرة العائلة لاحظت أن د.مصطفى محمود يتمايل برأسه يمينا ويسارا كمنشد مندمج فى مدح آل البيت، أو كصوفى منشرح بتجليات نورانية. استأذنته فى التقاط بعض الصور مع شجرة العائلة، فوافق، إنما لأننى قد رأيت بنفسى حركته الصعبة حين يقوم واقفا ويبدأ فى نقل ساقيه للمشى، فقد اقترحت أن نضع اللوحة إلى جواره على السرير بحيث يظل مستريحا فى الفراش، كما استأذنته فى التقاط بعض الصور الأخرى. بعد عدة لقطات بدا د.مصطفى محمود كأنه قد قام ب "تشفير" وجودنا بالغرفة، حيث مد يده إلى مجموعة كبيرة من الكتب المكدسة إلى جواره على الفراش وسحب من بينها كتاب "فاطمة الزهراء" لعباس محمود العقاد، وفى الحال استغرق فى القراءة، وكأنه يأتنس بالسيرة العطرة لآل البيت، وهى "السيرة" التى جاءت على السيرة. أشارت لى "أمل" بعينيها كى أخرج معها إلى "الصالة" باعتبار أنه مادام قد أمسك بكتاب، إذن هذا إيذان بأن العاشق قد دخل إلى صومعته وأن المحب قد لاذ بالأحبة، وأنه قد آن الأوان لكى يرتاح مع الشىء الوحيد الذى لا يتعبه، وهو القراءة. أثناء خروجى من الغرفة لاحظت أن زاوية الفراش بحجرة الدكتور مصطفى محمود تسمح بأن يكون امتداد الرؤية لديه هو مشهد مئذنة مسجده بأنوارها الخضراء مع قبته المزخرفة على طريقة تتابع أمواج البحار، فتركناه يسبح مع ما يقرأ ويتعمق ويتأمل ويسبح بحمدالله البصير، الحكم، العدل. غرفة نوم د.مصطفى محمود المطلة على ذلك المشهد الذى يشرح الصدر ويبهج الروح هى ثانية غرفتين فى منزله الصغير بالعمارة المطلة على مسجده، وهو المنزل الذى انتقل إليه منذ حوالى عشر سنوات بعد أن كان يقيم باستراحة ملحقة بالمسجد مكونة أيضا من غرفتين وصالة وكانت تقيم معه فيها شقيقته "الحاجة زكية"، وقد تحول مكان إقامته السابق هذا بالمسجد إلى مقر للجنة الخدمات الاجتماعية ومكتب لنائبه والمشرف العام على اللجنة الدكتور أحمد عادل نورالدين. أما شقته الحالية فابنته "أمل" تقضى معه فيها معظم اليوم لتشرف على رعايته، حيث إنها تقيم فى الشقة التى تعلو شقته مباشرة، كما أن ولديها أحدهما بالمرحلة الثانوية والثانى فى الجامعة، بالتالى فلديها الوقت المتوفر من أجل الوالد. هذا ما عرفته من "أمل" عندما انتقلت معها إلى الصالة كى نترك د.مصطفى محمود ليستريح مع القراءة، حيث ذكرت لى أن القراءة هى بالفعل الزاد الذى يعيش عليه الآن، فصحيح أنه قد توقف عن الكتابة منذ حوالى العامين مع ذلك فإنه لم يتوقف عن الاستزادة من المعرفة والقراءة. بل تكاد القراءة أن تكون أنيسه الرئيسى فى شيخوخته، كما أن لمداومته على القراءة دورا فعالا فى مواصلة شحن قدرته على التنبه والاستيعاب، فمن الطبيعى وهو الآن فى عمر الخامسة والثمانين أن تجهده الحركة، وأن يتعبه الكلام، حيث وهن الجسد وتعب القلب وتحمل الجسم عدة عمليات جراحية كان آخرها استئصال جزء من القولون وسبقتها عمليات أخرى عديدة، كان يردد دائما معها أن المرض خصوصية كبيرة وفرصة ابتلاء للإنسان كى يصبر. ولم يكن يتعامل مع المرض حين يصيب الآخرين إلا من المنطلق نفسه. وهو أن "محنة" المرض هى "منحة" من الله سبحانه وتعالى للتطهر، هذا بالضبط التعبير الذى يستخدمه لوصف المرض، فهو لا يشخص المرض باعتباره عقابا أبدا من الله، وإنما منحة. أعود مع كلام "أمل" حول القراءة لأشير إلى أننى قد لاحظت وجود كتب كثيرة إلى جواره على الفراش منها "الإعجاز العلمى فى القرآن" للدكتور "زغلول النجار"، كما لاحظت أيضا وجود أكثر من نسخة للقرآن الكريم وكتب التفسير. وقد فسرت "أمل" لى السبب فى وجود نسخ عديدة من المصحف على فراشه قائلة: صحيح أنه يحب الانفراد بنفسه مع القراءة غالبية الوقت، إلا أنه مازال حريصا على لقائه الأسبوعى الذى يواظب عليه من زمان مع عدد من أصدقائه القدامى وبالذات الشيخ على والشيخ عبدالقادر يزورانه عادة يوم الجمعة بعد صلاة العشاء يقرأون معا فى القرآن الكريم، وبعد قراءة كل آية يقرأون تفسيرات متعددة للآية من عدة كتب للتفسير ثم يتناقشون حول ما قرأوا ويتداولون الأفكار. هذه الجلسة الأسبوعية لم تنقطع إلى الآن، بل لم تنقطع حتى حين كان المرض شديدا عليه. وهو يسعد جدا بزيارتهما للصداقة القديمة الأصيلة التى تجمعهم ولأنهما مثله مهتمان بفكرة ربط العلم بالدين. طفل نقى أما عن علاقتها هى به فقد أخذت "أمل" تتكلم عبر ابتسامة حب كأنها تتحدث إلى نفسها قائلة: بابا حنين جدا، ولايتوقف عن توجيه الشكر مهما كان الشكر على واجب مثل قيامى بتقديم الدواء أو الطعام له، حيث يظل يدعو لى "ربنا يكرمك يا بنتى، ربنا يخليكى لى، ربنا يبارك لك فى صحتك"، فهو إنسان رقيق جدا وطيب جدا وحنين جدا، ولايحمل ضغينة أو كراهية لأحد أبدا حتى الذين يكرهونه. لدرجة أننى كنت ثائرة حين قرأت ما تم نشره مؤخرا ضده، بينما هو بتسامحه المعهود وإيمانه بالله واعتياده على التعرض للأزمات قرأ ما تم نشره ضده بلا مبالاة، وقال إن القراء يعرفون حقيقته جيدا ولن ينخدعوا أو يسيئوا الظن به أو يصدقوا ما يتم نشره ضده. ولخصت ابنته "أمل" شخصيته فى أنه مفكر عظيم، وأنه فى الوقت نفسه طفل نقى. قلت لأمل: "أما المفكر فنحن كقراء نعرفه إذن حدثينا عن مصطفى محمود كطفل كما تعرفينه أنت. - ضحكت بضحكة لم ترثها من والدها، إنما هى ضحكة مليئة بالذكريات الجميلة حول الأب الحنون من الابنة التى ورثت حنانه وقالت لى: هو طيب جدا، أبيض، أشعر أنه أبيض جدا من الداخل، متسامح، تسعده أشياء صغيرة جدا وبسيطة فيندمج جدا فيها. منذ كنا صغارا كان هو الذى يلاعبنا بالرغم من أن الفرق بينى وبين بابا فى السن أربعون عاما، بينما الفرق بينى وبين ماما أقل من عشرين عاما. مع ذلك كان بابا هو الذى يلاعبنى، وأذكر أنه كان يبدو وكأنه لا "يلاعبنى" فقط، وإنما كان "يلعب" هو معى أى يكون هو نفسه مستمتعا باللعب. وقد تأكدت من مسألة استمتاعه هذه باللعب مع الصغار حين صرت أما، وصار يلعب مع أحفاده بالطريقة نفسها التى كان يلعب بها معى أنا وشقيقى "أدهم" أثناء الطفولة، فبعد مرور كل هذه السنوات مازلت أراه كطفل كبير، فهو إنسان جميل جدا، ومازال حتى الآن بداخله طفل، وأيضا بداخله شاب، بالإضافة للناضج الذى منحته التجارب والسنين الحكمة والفلسفة. أضحك وأقول لها: وهذا الشبل من ذاك الأسد. ما كل هذه الحكمة والفلسفة، بالفعل أنت ابنة د.مصطفى محمود. - فتقول: بابا مهما كانت الأمور صعبة اعتاد أن يتلقى أى شىء ببساطة سواء يخصه أو يخصنا. ولقد حاول أن يزرع هذا فينا وكان ينصحنا به دائما وبألا نجزع لأى شىء نقابله فى حياتنا، فقد قابل هو فى حياته أزمات عديدة سابقة، ولم يكن يسمح للأزمات أن تعطله عن طريقه، إنما هو كنوع من الفلسفة يأخذ مثل هذه الأمور بقدر كبير من السخرية وينظر لمثل هذه الأمور من فوق، كأنه يعيش خارجها فى عالمه الجميل الخاص به. فأى أمر يستطيع أن يتعامل معه باعتباره أمرا صغيرا. وأعتقد أن هذا هو الصح. وأعتقد أن ما يقال ضده سينجيه الله منه بإذنه مع دعوات الناس الذين يترددون على الجامع ويستفيدون مما يوفره من خدمات وما ينشره من خير، بالإضافة إلى أنه قد سن سنة حسنة حين أعاد للجامع دوره، باعتباره مكانا ليس للعبادة فقط، إنما فيه رعاية صحية وخدمات اجتماعية. مصطفى محمود إنسان عظيم، قرأ وفكر، ثم اشتهر بربط العلم بالإيمان، ثم ربط الإيمان بالعمل. مؤكدا بصورة عملية على أن العلاقة بالدين لا يجب إغلاقها على الحلال والحرام، إنما الدين إعمار ومعاملة، رجل لم يعش لنفسه فقط، ولم يترك عمره يمر هدرا. ندعو الله أن يتقبل منه وأن يحمى القيمة التى يمثلها من التشويش، وأن يزيد من أمثاله ممن لهم بصمة فى الكتابة وفى الخير وفى العمل لوجه الله الكريم.