الإحساس بالأمان أصبح مطلبا عسيرا لإنسان هذا الزمان. فمهما كان موقعك على اتساع العالم.. ومهما كان تصورك أنك بمعزل عن كل المعارك والخصومات.. ومهما حاولت أن تحمى نفسك.. إلا أن الضربة القاتلة قد تفاجئك من حيث لا تدرى.. ومن حيث لاتتوقع.. مادام هذا العالم يسمح للشخصيات المريضة المشوهة أن تمارس جنونها وقوتها لإشعال النار فى كل القيم الإنسانية النبيلة لمجرد أن الطرف الآخر يختلف عنها فى الدين أو الجنسية. وهذا ما حدث فى جريمة مقتل المواطنة المصرية (مروة الشربينى) على يد متطرف ألمانى الجنسية داخل محكمة دريسدن الألمانية، جريمة بشعة أوجعت قلوبنا فى مصر، وهزت مشاعر العالم، وأقلقت ألمانيا بالكشف عن الوجه القبيح للنازيين الجدد الذين يطاردون المهاجرين إليها بجرائم متفاوتة ومتزايدة وصلت إلى حد القتل!! وقد بدأت بالأمس (الاثنين) أولى جلسات محاكمة المتهم فى مقتل »مروة« داخل محكمة دريسدن الألمانية.. ووسط إجراءات أمن مشددة لم يسبق لها مثيل فى المحاكم الألمانية.. حيث جندت شرطة مدينة دريسدن مائتى شرطى ألمانى لحماية مبنى المحكمة أثناء محاكمة ذلك المجرم. كما صدرت التعليمات بعدم الاقتراب من مبنى المحكمة وإخلاء مبنى المحكمة كليا من كل الجلسات فى هذا اليوم. والخوف طبعا من جماعات »النازيين الجدد« الذين قد يحتشدون للهجوم على مبنى المحكمة واختطاف المجرم القاتل واعتباره بطلا يحرس ألمانيا من شرور المهاجرين إليها وما يحملون من عادات وديانات يكرهونها أشد الكراهية!! وطالما شهدت المدن الألمانية أحداث عنف ارتكبها النازيون الجدد ضد المهاجرين، وفى مظاهرات الشموع واللافتات التى خرجت فى برلين تندد بتلاميذ هتلر.. كان من بين المتظاهرين، هذا الرجل الذى يمسك بالكاميرا يسجل رعب الضحايا، وآثار الحرائق والتدمير.. يطوف بين الوجوه والمشاعر.. وعندما سألوه: ماذا ستفعل بكل هذه الشرائط التى صورتها؟ قال بثقة شديدة: سأصنع منها أفلامى القادمة. سألوه: كيف تتوقع الأيام القادمة؟ اكتسى وجهه بالحزن والغضب.. وقال: لقد بدأت ألسنة النار ترتفع وتشتد، ولا أعتقد أنها ستنطفئ بسهولة! إنه أحد المهاجرين الأتراك فى ألمانيا.. والذين يفوق عددهم أربعة ملايين مهاجر.. ولكنه هو مهاجر له طبيعة خاصة، فهو فنان كاتب ومخرج سينمائى. نذر نفسه وأفلامه لقضية المهاجرين. اسمه (توفيق باسر) كان فيلمه الأول (04 مترا مربعا) والمقصود بالعنوان هو مساحة ذلك المنزل الضيق الذى حبس فيه أحد المهاجرين الأتراك زوجته حتى لا تحتك بالمجتمع الألمانى!! وجاء فيلمه الثانى بعنوان (وداعا.. للحديقة الكاذبة)، ويكشف الفيلم عن خشونة الواقع من خلال امرأة تركية تتهم بقتل زوجها ومعاناتها المريرة داخل السجن الألمانى باعتبارها من حثالة البشر، حسب تصنيفاتهم النازية!! وتتوالى سلسلة تلك الأفلام التى تكشف عن أحوال المهاجرين.. بفيلم عنوانه (وداعا أيها الغرباء) عن هذا الكاتب التركى المعارض لسياسة بلاده وهروبه إلى ألمانيا باحثا عن الأمان.. ولكن كيف يأتيه الأمان وهو لا يحمل تصريح إقامة فى ألمانيا، فيضطر للهروب من جديد إلى جزيرة نائية فى بحر الجنوب، سكانها يفرون من عواصف الشتاء، ولايبقى بها سوى صاحب مقهى وعدد من المهاجرين الهاربين مثله من مطاردة الشرطة (من جنسيات أفريقية وآسيوية) يقيمون بين حطام أتوبيس قديم فى العراء. ويتصادف فى ذلك الوقت وصول تلك المرأة الألمانية التى تعدت الأربعين من عمرها، والتى جاءت لتقيم فى منزلها بهذه الجزيرة لتخلو بنفسها من وطأة مشاكلها العائلية. وهكذا تلتقى هذه المرأة بذلك المهاجر وتنشأ بينهما صداقة من نوع نادر.. فكلاهما يتكلم بلغة لايفهمها الآخر.. هى تتكلم الألمانية وهو يتكلم التركية، ولكن تجمعهما المشاعر الإنسانية. وتسعى تلك المرأة إلى حمايته من مطاردة الشرطة فتستضيفه فى منزلها. وفى هذا المنزل يكتشف المهاجر آلة كاتبة فيجلس أمامها بالساعات يكتب، ولا أحد يعرف ماذا يكتب! حتى تأتى ثورة الطبيعة فى عاصفة قاسية تكتسح أرض الجزيرة وتأتى فرق الإنقاذ بطائرات الهليكوبتر لإنقاذ الأحياء على هذه الأرض الغارقة بالمياه، وهكذا تكتشف الشرطة حقيقة ذلك المهاجر ويقومون بترحيله إلى بلاده. بعد انقضاء عدة شهور تكتشف تلك المرأة الألمانية رسالة تصلها بالبريد داخلها كتاب عليه صورة ذلك المهاجر التركى الذى استضافته فى منزلها الصيفى. وتقرأ أنه أحد المعارضين السياسيين، وأنه مات أثناء إضرابه عن الطعام فى أحد السجون التركية.. ولم يكن الكتاب سوى مذكراته الشخصية ورحلة هروبه إلى ألمانيا. والفيلم أشبه بقصيدة شعرية، مرثية شديدة العذوبة لا تحفل بالكلمات وإنما تضىء بالمشاعر الإنسانية. فروق اللغة والجنسية والدين تسقط أمام هذا التوحد والدفء الإنسانى والإحساس بالأمان. وهكذا أيضا اغتيلت مروة الشربينى على يد متطرف ألمانى مجنون.. وداعا أيها الغرباء!؟