كتب: فؤاد أبو حجلة أنا أحب البطيخ، لا أتفرد بهذا الحب، وأعرف أن مئات الملايين من البشر فى العالم يحبون هذه الفاكهة الصيفية التى تُشبع وتَروى وتُسلى فى نفس الوقت، لكننى ربما أتفرد بالإدمان على تناول البطيخ الذى يجعلنى أتوق إلى قدوم الصيف، وأكتئب فى بدايات الخريف وأدخل فيما يشبه السبات الغذائى فى الشتاء الطويل. بصراحة، لا شىء يشبه البطيخ، ولا فاكهة تضاهيه فى مذاقه وفى ألوانه، وخاصة فواكه الشتاء التى تلسع حموضتها اللسان والحلق، وتبدو صفراء باهتة وبرتقالية حائرة تخشى الاقتراب من الأحمر الواضح.. وأنا أحب الأحمر الواضح. أعرف أن «صباح الخير» ليست مجلة زراعية متخصصة، ولا هى نشرة تغذية، لكننى أكتب عن البطيخ بدوافع خاصة لا علاقة لها بالزراعة ولا بالنظام الغذائى، بقدر ما ترتبط بذائقة لونية وسياسية خاصة لا تراها إلا فى البطيخ، هذه الفاكهة العبقرية التى تظهر أخضرها وتخفى أحمرها، مثلنا جميعًا، ونحن نعيش فى مجتمعات تدفعها حيرتها بين الألوان للذهاب إلى الرمادى، بينما يخفى كل فرد فيها لونه الحقيقى تحت جلده أو داخل جمجمته وكأنه سر خطير ينبغى إبقاءه مستورًا. بشكل أو بآخر ننتمى إلى البطيخ، ونعيش فى المأثاة العربية ونحن نخفى جذورنا تحت التراب، ونتحرك بتثاقل تحت الشمس ونخفى قلوبنا الحمراء بقشرة صلبة من الوهم. فى شوارعنا الكثير من البطيخ، ولدينا بطيخات كبيرة قليلة العدد وبطيخات صغيرة تعد بالملايين، ولدينا الكثير من البذور السوداء التى نقضى أمسياتنا ونحن نتسلى ب«قزقزتها» وإلقاء قشورها من أفواهنا بطريقة مقززة لكنها تُعبر بصدق عن موقفنا من الحياة. باختصار، ومع الاحترام لنظرية داروين والمقتنعين بها، لا أعتقد بصحة نظرية النشوء والتطور، ولا أعتقد أن أصل الإنسان كان قردًا، وإذا كان بعض البشر يشبهون القرود فهذه مجرد مصادفة، فهناك أشخاص طوال القامة يشبهون الزرافات لكن ذلك لا يقودنا إلى الاعتقاد بأن الإنسان أصله زرافة، وكذلك فإن وجود أشخاص سمينين لا يدفعنا إلى القول إن الإنسان أصله فيل، وإذا كان مستوى الذكاء محدودًا جدا لدى بعض البشر فإن هذا لا يبرر الادعاء بأن الإنسان أصله حمار مثلا. أعتقد أن أصل الإنسان بطيخة، وإذا كان هذا صعب القبول أو التصديق فإننى أبتعد عن التعميم، وأقول إن بعض البشر، وأنا منهم، ينحدرون من سلالة البطيخ، وهذه هى الدلائل بعض البشر موسميون، لا ينشطون ولا يتحركون ولا يتفاعلون مع الحياة إلا فى موسم واحد، غالبًا ما يكون فصل الصيف، وبعضنا يغيبون ويختفون تمامًا فى الشتاء، وهناك بشر إِخضر لونهم بفعل الكهولة والتقدم فى العمر وبؤس الحياة، وإذا تشقق جلدهم يبدو ما تحت الجلد دم أحمر. فى داخل كل منا بذور للخير وللشر وهى بذور لا تظهر إلا فى لحظة الكسر. نشبه البطيخ كثيرًا، ونتماثل مع شكله ومحتواه، ونأكل ما أتيح لنا منه مثلما يأكل البشر بعضهم عندما يستطيعون ذلك. ونختلف عن بعضنا مثل اختلاف البطيخ عن بعضه، فينا الصغير والكبير، وصاحب العقل النيء وصاحب العقل الناضج، وفينا الشَعور والأقرع. نحن بطيخ مطور جينيًا، وقد خرجنا من تحت التراب لندوس عليه ونحن نرتدى الملابس للتمويه على هويتنا البطيخية، وما زلنا نعيش صيفًا ونختفى شتاءً، وما زلنا نبل ريق العطشى فى نهارات وليالى القيظ العربى. ونحن بطيخ بالمعنى السياسى حين نرتدى القشرة الخضراء لنخفى عمقنا الأحمر، ولدينا بطيخ غير مسيس ولا احمرار فيه، ونسميه «أقرع». ونحن أيضًا بطيخ متاح للآخرين، وخاصة أولئك الذين يأكلوننا ويلقون بقشرنا وبذرنا على أرصفة الشوارع. أنا بطيخى متطرف، وأعتقد أن هناك ملايين العرب البطيخيين الذين ما زالوا يخفون احمرار قلوبهم ليضمنوا العيش فى مجتمعات الطوائف والعصبيات الغبية التى تنظم بقاءها وتغذيها اتفاقات المحاصصة. يعيش البطيخ، وتسقط الطوائف.