فى 27 يناير الماضى هز انفجاران كاتدرائية رومانية كاثوليكية بجزيرة جولو فى مدينة سولو بالفلبين، خلال القداس الإلهى - الأحد- أسفرا عن سقوط 23 قتيلًا وإصابة 81 آخرين ووقتها أعلن تنظيم داعش أن اثنين من مفجريه الانتحاريين قد تسببا فى هذه المذبحة. لم يمر يومان حتى نشر التنظيم صورة على مجموعات الدردشة لأنصاره تُظهِر الرئيس الفلبينى رودريغو دوتيرتى راكعًا أمام كومة من الجماجم بينما يقف مقاتل فوق رأسه ممسكًا بخنجر، وكان تعليق الصورة: «لقد بدأ القتال لتوه».. والذى كان بمثابة إعلان ميلاد التنظيم الدموى على الأراضى الفلبينية ليؤكد التنظيم أنه فكرة «سرطانية» والفكرة لا تموت.. ويمكن القول أنه فى الوقت الذى فقد فيه السيطرة على مناطقه فى سوريا والعراق، فإنه يتعاظم سرطانيًا فى ملعبه الجديد «الفلبين»، التى يعتبرها التنظيم معقلًا له فى شرق آسيا، فالتنظيم الذى كان يحكم قبضته على مساحة «بالعراق وسوريا» توازى حجم بريطانيا، انكمش تمامًا بعد 4 سنوات من القصف المدعوم أمريكيًا والمعارك البرية مع الأكراد والميليشيات الشيعية، ولم يتبق له سوى قرية صغيرة شرقى سوريا (الباغوز) والتى سقطت منذ أيام هى الأخرى، إنما أن التنظيم «يتبرعم» الآن فى مكان آخر بعيدًا.. هنا وسط الغابات الكثيفة يرفرف العلم الدموى لداعش وسط أرخبيل جزر مينداناو جنوبىالفلبين فوق ما يعتبره التنظيم ولاية شرق آسيا التابعة لدولته والتى تضم أعدادًا متزايدة من مسلحى تنظيم داعش، مستغلة ضعف قبضة الشرطة وسط الغابات، التى تحولت إلى ملاذ للمتشددين، رغم تقليل السلطات الفليبنية من خطورة الأمر. وليس سرًا أن أرخبيل جزر مينداناو كانت دومًا ملاذًا للمتمردين بسبب كثافة غاباتها وضعف شرطتها، وهو ما سهل على داعش السيطرة عليها بواسطة مجموعات من المسلحين الجهاديين معظهم من أماكن بعيدة مثل الشيشان والصومال واليمن. ورغم تحرك الدولة ذات الأغلبية المسيحية لاحتواء «المسلمين» ومنحهم حقوقًا غير مسبوقة، فإن داعش نجح فى الوصول للعديد منهم وإقناعهم بالانضمام إلى التنظيم عازفا على وتر «الخلافة المزعومة»، حيث يسعى التنظيم لإفساد «السلام الهش» بين المسلمين والحكومة عقب صراع دام 50 عامًا انتهى بتصديق رئيس الفلبين، رودريغو دوتيرتى، فى 27 يوليو الماضى، على قانون يمنح أقلية «مورو» المسلمة حكمًا ذاتيًا، وجاء هذا القانون تتويجًا لتفاهمات توصلت إليها الحكومة مع «جبهة تحرير مورو الإسلامية»، فى مسار السلام الذى استمر عدة سنوات، وشهد إيقاعه تسارعًا منذ تولى الرئيس دوتيرتى الحكم منتصف عام 2016.. وبموجب القانون يتم الاعتراف بولاية مينداناو والجزر المحيطة بها، ذات الغالبية المسلمة، على أنها منطقة حكم ذاتى مع حقهم فى تطبيق الشريعة.. و«مورو» اسم يطلق على المسلمين الذين يعيشون فى جزر: مينداناو، وبالاوان، وأرخبيل سولو، والجزر الجنوبية الأخرى من الفلبين، والذين يمثلون نحو 11 % من سكان البلاد، البالغ عددهم 10 ملايين نسمة، واعتنقوا الإسلام فى القرن ال14، ويتمركزون فى مدن ماغوييندانايو، ولاناو ديل سور، وسولو، وطاوى طاوى، وباسيلان. وكلمة «مور-Moor»، تعنى «مغربى»، وهى محوّرة من الكلمة اللاتينية «Mauru» التى كانت تطلق على سكان المغرب العربى، وقد نجح التنظيم الدموى فى نشر مئات المقاتلين الموالين له فى هذا المكان النائى وذلك منذ 2016 عندما بدأ تجنيد سكان جنوبالفلبين، حيث استمال الشباب الفلبينى بفيديوهات عن «الخلافة» مؤكدًا أن الفرصة لا تزال أمامهم رغم عدم سفرهم إلى التنظيم فى سوريا والعراق.. وبالفعل انبرى الكثيرون تحت لواء التنظيم أملًا فى جحيم زيّنه له التنظيم باعتباره جنة على الأرض وبالسماوات.. وميدانيًا استولى المقاتلون الذين بايعوا داعش على مدينة مراوى فى مانداناو، وبحلول الوقت الذى انتصر فيه الجيش بعد 5 شهور من ذلك، أصبحت أكبر مدينة ذات أغلبية مسلمة فى البلاد تحت الأنقاض، وقتل ما لا يقل عن 900 متمرد، بمن فى ذلك مقاتلون أجانب، علاوة على إيسنيلون هابيلون، (51 عاما) قائد جماعة «أبو سياف» زعيم تنظيم داعش فى الفلبين وشرق آسيا وذلك فى أكتوبر 2017. وبعد ذلك بأيام أعلن الرئيس الفلبيبنى الانتصار على داعش، لكن حساباته لم تكن دقيقة بالمرة، حيث تجمع التنظيم - بقوة أكبر وبتمويل مفتوح من خارج الفلبين. وتكتفى الولاياتالمتحدةالأمريكية بمراقبة الوضع عبر طائرات الاستطلاع -بدون طيار- والتى تمشط أرخبيل الفلبينالجنوبى. ومن جانبهم يقلل المسئولون الرسميون فى الفلبين من «قوة داعش» أو حتى انتشارهم، حيث يؤكدون فى تصريحاتهم الصحفية أن الأمر لا يعدو سوى مجرد شجار بين العشائر المسلمة أو نوع من الأعمال الإجرامية الشائعة. وتنفى السلطات وجود مقاتلين أجانب، وتصر على عدم وجود مقاتلين أجانب مختبئين فى الغابات، ويزعمون أنَّ المتمردين قد انخفض عددهم إلى نحو 20 من المحاصرين العالقين. والحقيقة أن التطرف الدينى مزدهر على مر التاريخ فى الفلبين، ولعقود من الزمان ازدهرت جماعات التمرد، مثل جماعة أبوسياف، التى أطلقت حملة من التفجيرات وقطع الرءوس، فى هذه المنطقة الخارجة عن القانون، التى تمتد باتجاه ماليزيا وإندونيسيا، وفى التسعينيات، بعد أن عاد الفلبينيون من ساحات المعارك فى أفغانستان والمدارس المتشددة فى اليمن والسعودية، انصهرت المظالم المحلية مع الدعوات العالمية للجهاد، وفى هذه المنطقة الواقعة شرقى آسيا والتى تتخذ شكل الهلال، حلم المقاتلون بخلافة حرة من الحكم العلمانى. وفى أعقاب ذلك قامت الجماعة الإسلامية فى جنوب شرق آسيا، وهى فرع القاعدة الذى قتل أكثر من 200 شخص فى ملهى ليلى بجزيرة بالى عام 2002، بتدريب المجندين فى غابات الفلبين. وبالفعل نجح «داعش» فى ربط المقاتلين المتفاوتين فى الفلبين تحت راية أيديولوجية واحدة ولم تعترف الحكومة بقوة داعش فى جذب الجميع، من الطلاب الجامعيين إلى أطفال جماعة أبو سياف فى الغابة، حيث يقدم التنظيم نفسه باعتباره بديلًا لما يراه «ديمقراطية فاسدة» فى إشارة إلى الأغلبية المسيحية التى تضم نحو 93 % من السكان. •