ليس كل من نشأ فى بيئة فنية يميل أفرادها إلى الفن بشتى أنواعه ويشجعون عليه هو فقط الفنان، فأحيانا الحياة الصارمة والتربية العسكرية تخلق فنانا أيضا.. فى رحم الصخر تولد الورود أحيانا، ومن رحم المعاناة تكون النكتة، شاعرنا اليوم نشأ وتربى فى بيئة عسكرية فى الأساس من أب ضابط فى الجيش وتدرج إلى أن تقلد منصب لواء جيش. لا يعرف سوى الصرامة والحزم، والفن بالنسبة له رفاهية لا معنى لها ولا فائدة منها. كان الأب يرى هذا بينما ابنه «عمر الجبيلى» غارق فى النصوص الأدبية التى كان يدرسها بالمدرسة ومولع بأشعار الجاهلية، ويسهر ليله يستمع لغناء شهر زاد، وسعاد محمد وأم كلثوم. عمر الجبيلى هو شاعرنا اليوم الذى سنتحدث عنه، علنا نعطيه نقطة فى محيط ما قدم لنا من إبداع وكلمات يشدو بها الطير وتطرب القلوب قبل الآذان. عندما علمت نشأته العسكرية الصارمة وسمعت كل هذا القدر من الإبداع، كان يجب أن يكون ل «صباح الخير» وقفة مع هذا المبدع لنسأله أولا: • كيف اجتمع الشعر مع النشأة العسكرية الصارمة؟ - تربيت تربية عسكرية، حيث ولدت من أب ضابط فى الجيش وحياة صارمة للغاية، وكل شيء فى حياتنا بمواعيد، هذا بالإضافة إلى أن الفن بعيد كل البعد عن كل أفراد الأسرة. ولدت فى الحلمية الجديدة ونشأت وترعرعت بها وبدأت أكبر ويكبر داخلى عشقى للأدب والشعر، وسلك إخوتى نفس طريق أبى فجميعهم كانوا ضباطا، وعندما بدأ والدى يكتشف عشقى للأدب خشى كثيرا أن يبعدنى الفن عن الحياة العسكرية، وكان يحذرنى من هذا كثيرا، وفى مرة من المرات استيقظ ليصلى الفجر كعادته ووجدنى شاردا على أنغام أغنية «ليلتين مبنامش» لشهر زاد فسألنى: ماذا تفعل فى هذا الوقت المتأخر؟ فقلت له إننى أستمع لغنوة جديدة تغنيها شهرزاد اسمها «ليلتين مبنامش» فرد على بكل صرامة وحزم: «وإيه اللى يخليها متنامش» بيعلموا الناس السهر فى الأغانى، وقلة الأدب. وهكذا الكثير من المواقف التى كان يعارضنى فيها ويعارض اتجاهاتى الفنية. وكنت قد قررت الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية عقب الثانوية العامة مباشرة، وبالفعل اتجهت بأوراقى للمعهد، ولكنه أصر على التحاقى بالحربية، والتحقت بعد إصراره الشديد وأنا فى قمة غضبى، ولكنى احترمت مكانى وأحببت تواجدى فيه وفكرت فى أن أكتب وأبدع وأنا ضابط.. فلم لا؟ وماذا يمنع بعد أن حققت رغبة والدى فى التحاقى بالكلية التى يرغب بها، وتخرجت فى الكلية الحربية وعملت ضابطا بالمطار «ملازم أول»، وتعرفت على شهرزاد أثناء عودتها من إحدى رحلاتها الفنية وحكيت لها عشقى لأغانيها، وأيضا الموقف الذى حدث معى عندما استيقظ والدى فى الساعات الأولى من الصباح فجر أحد الأيام، ووجدنى قد أنفقت ليلى بالكامل أسمع أغنيتها المحببة إلى قلبى «ليلتين مبنامش»، وجعلتها أيضا تتحدث إليه بالتليفون، وكانت هذه هى البداية الحقيقية، حيث كتبت لها أغنية «كده أهو يا زمن كده اهو»، ألحان فؤاد حلمى، وقبلها كان هناك العديد من الأغانى، ولكنها لم تنتشر، حيث أخذنى صلاح درويش «صحفى بالأهرام» وراح يعرفنى على بعض رموز الوسط الفنى آنذاك وعملت معهم، ولكن جميعها أعمال صغيرة، ولم أتمكن من بداية حقيقية، وبعد تعاونى مع شهرزاد التقيت بالعديد من الرموز الفنية الساطعة والبارزة أمثال الموسيقار محمد الموجى وبليغ حمدى، وكان الجو هناك خصبا جدا للعمل الفنى والإبداع، واستفدت كثيرا من هذا الجو، حيث كنت أكتب الأغنية دون أى هنات عروضية أو وزنية. • نستطيع أن نقول إن شهرزاد هى الانطلاقة أو بداية الطريق.. ولكن ماذا عن ثانى وأهم محطات عمر الجبيلى؟ - ثانى وأهم محطاتى على الإطلاق كانت طبعا لقائى بالموسيقار الكبير سيد مكاوى، فهو ليس محطة بالنسبة إليّ، وإنما مشوار عمر وقصة حياة لن أنساها، ولن أنسى كلماته ونصائحه لى. • احك لنا عن أول لقاء بينكما الذى جاء بعده بكم هائل من الأعمال الجميلة؟ - أول لقاء بيننا أو أول اتصال لن أنساه أبدا أبدا، حيث كنت فى مكتبى وإذا بالتليفون يرن وشخص يقول لى: «أيوا يا عمر.. إزيك.. أنا سيد مكاوى، وهناك صديق لى ضابط أيضا هوايته تقليد الأصوات وعمل مقالب، وهو أول من جاء على ذاكرتى فى هذا الوقت، فقلت له: بقولك إيه مش ناقصة هزار سيبنى فى حالى! وهكذا عندما رن التليفون ثانية وثالثا وهو يقول لى: يا عمر أنا سيد مكاوى يا ابنى، وأنا بالطبع غير مصدق ولا يخطر على بالى أن سيد مكاوى بجلالة قدره يحدثنى فى التليفون، إلى أن اتصل بى محمد الحلو وكان وقتها صديقى جدا وعملنا مع بعض أغنية «على الطبلة والعود والناى»، ألحان محمد الحلو، فى فيلم «طبول فى الليل»، والحلو صديق عمر بالنسبة لى، فاتصل بى ووجدته منفعلا لما حدث وقال لى: إيه يا عمر اللى عملته دا برضو كده؟! سيد مكاوى بيكلمك تروح أنت تكلمه بالشكل دا.. ليه كدا يا عمر؟! فانهرت تماما ولم أصدق أنه بالفعل سيد مكاوى، فقلت له: معقولة هو كان سيد مكاوى فعلا؟! قال لى: آه طبعا.. يلا خد رقمه وكلمه فورا! وضعت السماعة مع محمد الحلو ووجدت التليفون يرن، وإذا به سيد مكاوى للمرة الرابعة، لم أعرف كيف أعتذر له هذه المرة، فأى أسف يوفى هذا الرجل حقه وأى اعتذار! ولم أعرف ماذا أقول له وكيف أتحدث معه وأنا تكاد الأرض لا تحملنى ولا تسعنى من فرحتى باتصاله، وشرحت له أن لى صديقا غاوى مقالب وتقليد أصوات، فتعالت ضحكاته الجميلة وقال لى: ولا يهمك، أنا الحلو قال لى إنك شاعر جميل وأنا عايز أقابلك، وحددنا موعدا وتقابلنا فى منزله بوسط البلد، ومنذ هذا اللقاء لم نفترق أبدا على مدى 20 عاما. رحلة من العطاء والإبداع والحب والحياة، إنه هو سيد مكاوى، علاقتنا الإنسانية كانت أكبر وأهم من أى شيء.. وفى يوم كتبت له أغنية «متعودناش» التى كانت مكونة من مذهب وكوبليهين، وفوجئت بتليفونه رن وأنا معه با لمنزل ووجدته يضحك ويقهقه وأنا لا أعلم مع من يتحدث إلى أن قال «طب اسمعى يا وردة الأغنية دى» وأمسك بعوده وبدأ يغنى لها «متعودناش على بعدك متعودناش» وفاجأنى بأنه يسمعها لوردة كى تغنيها، وبعدما انتهى من الغناء قال لها: دى كلمات عمر الجبيلى صديقنا وشاعر جميل، فقالت له: طيب بوسهولى لحد ما آجى، قال لها: لا، تعالى أنتى بوسيه بنفسك، ووضع سماعة التليفون فسألته ماذا فعل فقال لى: وردة هتغنى «متعودناش»، وكانت مفاجأة جميلة بالنسبة لى، وكانت الغنوة ناقصة كوبليه لأنها ستغنيها وش شريط، فقال لى سيد مكاوى: «يلا يا سيد اكتبهولنا ومتتأخرش علينا»، وبالفعل كتبت الكوبليه فى نفس اليوم من فرحتى، وبعدها كلمنى سيد فى أن شركة صوت القاهرة كلمته فى إنتاج شريط له وقال لى: يلا استعد عشان تكتبهولى، ولم أوافق أنا على كتابة الشريط بالكامل، وقلت له: إن الناس هتقول إنى استغليت صداقتى بك، وكتبت لك الشريط بالكامل، ولكن أنا سأكتب غنوة أو اثنتين فقط والباقى أى شاعر غيرى يكتبه. استغرب مكاوى كثيرا وقال لى: إن طيبتى لا تصلح فى هذا الزمان، ولكنى أصررت على موقفى، وبالفعل كتبت الأغنية الهيد أو وش الشريط وهى أغنية «خليك قريب مننا» وأغنيتين داخل الشريط. وتوالت بعدها مواقف مكاوى الإنسانية التى لا تنسى أبدا، ففى ذات ليلة كنت جالسا بمنزلى فى حالة نفسية مزرية للغاية، ووجدته يحدثنى ويطلب منى أن آتى إليه فورا، وألح فى الطلب، ذهبت له ففوجئت بوجود مطربة سورية جالسة معه وزوجها وصلاح عرام وعندما دخلت قال لها: هو دا بقى يا ستى الشاعر اللى أنت قاعدة بتحفظى الغنوة بتاعته، وهكذا الكثير من مواقف مكاوى التى كانت دائما تنتشلنى من أصعب حالاتى النفسية. وكانت أجمل جلساتنا عندما كان يأخذنى ونذهب للجلوس مع عمار وصحبته، وكثيرا ما تدخل فى مشاكلى بحب وبثقة، افتقدت مكاوى وافتقدت عملى معه، وافتقدت الإنسان أكثر شيء، كتبت بعد وفاته العديد من الأعمال، ولكن ليس كعملى معه، مثل أغانى مسلسل «أحلام الفجر الكاذب» غناء حسن الأسمر ومدحت صالح، وعملت مع الملحن الكبير حلمى بكر أغنية «باختصار» غنتها حياة الإدريسى. • لمن تحب أن تقرأ؟ - تعودت دائما ألا أترك ورقة إلا قرأتها ولا قصيدة إلا حفظتها، وكل كتاب يقع تحت يدى فهو فريسة لا أترك فيه شيئا إلا حللته، ومن هنا كونت شخصيتى، ولكن إذا ذكرنا أحدا بعينه سوف نقول طبعا الشاعر جمال بخيت وسيد حجاب وعبدالرحيم منصور وبيرم التونسى وغيرهم الكثير من الأجيال الحديثة. • ما تحليلك ورأيك فى الإعلام فى الوقت الحالى؟ - أرى أنه فى الفترة الأخيرة حدث انفجار إعلامى كبير كان أردأ ما فيه المحطات التى كانت تطلق صواريخ التجهيل والتسطيح والتخلف على العقول المصرية والعربية ابتداء من قناة الجزيرة والحوار حتى محطات دعاة الضلال، وفى الوقت نفسه كان هناك ميلاد لصحافة مستقلة أو خاصة، فبعض هذه الصحف تقدمت كثيرا مهنيا وانتشرت كتابتها عبر المحطات الخاصة فى برامج «التوك شو» التى شكلت نقلة نوعية فى العطاء الصحفى، لكننا مازلنا بحاجة لميثاق شرف إعلامى تراقب به الجماعة الصحفية أداء أبنائها. • ما رأيك فى الانقسام المتواجد فى الشارع المصرى هل هذا يليق بنا وبحضارتنا؟ - من المبالغ فيه أن نقول إن هناك انقساما.. فى حقيقة الأمر إن الشعب كله رفض حكم الفاشية الدينية والإرهاب الذى يقول عن نفسه إنه إسلامى، نحن نشهد الآن سقوط وهم حسن البنا لاستيائنا من حكم الجماعة والجماعات عموما، ولذلك فأى تغيير دائما يصحبه اضطراب وما نحن فيه أمر طبيعى سيتبعه هدوء وبعده استقرار بإذن الله وهذه طبيعة الثورات على مر العصور، ولكننا نعيش الآن حالة من الاستقرار النسبى مع الرئيس عبدالفتاح السيسى. • ماذا عن الفن والأفلام المتواجدة على الساحة؟ - كل ما حدث هو تغير فى المزاج الشعبى بداية من أيام غزو العراق الذى صنع نهاية درامية لما كان يسمى بالمسرح السياحى وتتابعت موجات السينما المضحكاتية التى كانت تبدأ بنجاح ساحق وإيرادات خيالية لتنتهى بإيراد هزيل جدا وانصراف من الجماهير، وتتالى سقوط موجات غنائية أو موضوعات موسيقية وبدأت بشائر نوع جديد من الغناء ونوع جديد من السينما لعل بدايته كانت مع «سهر الليالى» و«ليلة سقوط بغداد» و«فيلم ثقافى»، وما نراه الآن من صعود موضات سينمائية غيبوبة سنفيق منها بعد خروج المجتمع من موجة الاضطراب، وأعتقد أنه سيترسخ مزاج فنى وأدبى وثقافى جديد يطرد من حياتنا كل ما هو عشوائى فى فنون هذه الموجات العابرة. ما الذى تريد توجيهه للشباب؟ - كل ما أريد أن أوجهه للشباب هو أن أقول له اعمل واعمل واعمل واترك كلام الناس جانبا، فأنت بعملك سوف تخرس تلك الأفواه ولا تنظر خلفك ولا تمش على الطريق المرسوم واخلف القواعد واصنع طريقا وكن نفسك فقط، اكتب ما تصدقه فقط ولا تكتب لتساير الموجة. • هل تقرأ لأحد من الشعراء الشباب؟ - أقرأ للكثير منهم، فمنهم من يكتب بإحساس عالٍ وشديد جدا، ويعجبنى كثيرا بساطتهم، وعمقهم فى بعض الأحيان وفهمهم للواقع المحيط بهم. • أخيرا ماذا تقول لسيد مكاوى بعد كل هذا الغياب؟! - متعودناش على بعدك.•