أحيا الأرمن فى جميع أرجاء المعمورة- الأسبوع الماضى- الذكرى ال99 لعمليات الإبادة الجماعية بحق شعبهم والتى مارستها الدولة العثمانية من خلال عمليات قتل وتهجير للشعب الأرمنى والتى اعتبرت فى ذلك الوقت عملية (إبادة عرقية).. واليوم يحاول رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان الالتفاف حول هذه الحقيقة التاريخية بتقديم العزاء عن هذه الإبادة فى محاولة للتحايل وعدم تقديم اعتذار رسمى عن هذه الحقبة السوداء من تاريخ تركيا.
وخلال السطور المقبلة، تحدثت مع زميل الدراسة والمهنة مراد هارتونيان، وهو صحفى وناشط حقوقى مصرى من أصل أرمنى، هاجر منذ عام للاستقرار بكندا، حيث سمح لى ال(الماسينجر) المرتبط بالفيس بوك فى إجراء حوار شامل حول تطورات القضية الأرمنية ورؤيته للموقف التركى وتوقعاته لسيناريو الأحداث العام المقبل والذى يوافق مرور قرن من الزمان على هذه المذابح، فماذا قال؟
- أردوغان قدم تعازى بعد 99 عاماً من عملية الإبادة، ولكنه لم يعترف بأن ما أقدمت عليه القوات العثمانية - آنذاك - من قتل وتهجير للشعب الأرمنى من أراضيه هى عملية إبادة عرقية، فأردوغان لم يكتف فى تلك الرسالة- وهى غير مسبوقة بالفعل كما يروج لها المسئولون الأتراك- فقط بالامتناع عن الاعتراف بالإبادة، ولكنه كرر أطروحاته السابقة والتى لا تنم إلا عن نفى قاطع عما اقترفه العثمانيون فى تلك الأيام.
إن أردوغان كرر دعوته لتكوين لجنة من المؤرخين والباحثين لتقييم ما حدث خلال الحرب العالمية الأولى.. وهى تعنى ضمناً وصراحةً أنه يريد إثارة الشكوك واللغط حول ما حدث، وهى إبادة لا يمكن لإنسان أن ينفيها، فهل لديك تفسير لماذا- أنا الأرمنى- ولدت فى مصر، وكذلك أبى وأمى، ونتحدث اللغة العربية بطلاقة.. لماذا الأرمن مشتتون فى سوريا ولبنان وفرنسا وأمريكا وبقية أنحاء العالم؟ هل كان ذلك اختيارا جماعياً من أجدادنا أن نرحل من بلادنا ونهاجر طوعاً ومحبة فى الدول التى ولدنا نحن فيها فيما بعد؟ «حنانيك يا أردوغان».
∎.. ولكن لماذا قدم التعازى إذن؟
- التعازى التى قدمها أردوغان ربما توحى أنه يمهد للمجتمع التركى الاستعداد لتنازل قادم، ولكن الاحتمال الأكبر أن أردوغان- الغارق فى الوحل السورى والعربى- أراد أن يقدم نفسه للعالم بشكل أفضل، إلا أن هناك كذلك احتمالا أنه يريد «تسجيد» الأرمن- إن جاز التعبير- قبل أشهر من بدء فعاليات إحياء ذكرى مرور مائة عام على اقتراف أجداده للإبادة الأرمنية، فالأتراك يعملون ألف حساب لما يجهز لهم الأرمن من مفاجآت عام 2015، فالضغوط على تركيا ستصل إلى مداها العام المقبل.. وربما هو الذى يجهز لنا مفاجأة غير سارة.
∎ الواضح أن هناك تطوراً فى القبول التركى للمذابح، وربما تأتى هذه التعازى فى إطار هذا التطور!
- نعم، حتى الثمانينيات، لم يكن الأتراك يتحدثون ولو بكلمة واحدة عن أحداث 1915، بينما عندما اغتيل الصحفى الأرمنى التركى (هرانت دينك) فى 2007، رأينا مظاهرات فى بعض المدن التركية تندد بالاغتيال وترفع لافتات «كلنا أرمن».. ولكن السؤال: «كويس، طب وبعدين؟» الأتراك الآن يمكننى تشبيههم بالذئب البشرى الذى قتل ضحيته بعد اغتصابها وإلقائها من الشرفة، فضلا عن الاستيلاء الكامل على منزلها ثم يقدم التعازى لأهل الضحية.
∎ الاعتراف بالإبادة لها توابع!!
∎ ولهذا لا يعترف أردوغان ولا تعترف تركيا بالمذابح الأرمنية؟!
- بالفعل.. لأن الاعتراف بالإبادة العرقية لها توابع بدفع تعويضات مباشرة لورثة ضحايا الإبادة والأهم إعادة الأراضى الأرمنية المغتصبة لأحفاد الأرمن أو الجهة التى تمثل أحفاد الأرمن حالياً وهى جمهورية أرمينيا، ولهذا السبب لم تشهد تركيا زعيماً أو حكومة أو حتى مواطناً لديه الشجاعة- الأدبية حتى الآن- لإعلان الاعتراف بالإبادة، لأن الاعتراف سيتبعه الاضطلاع بمسئولية ارتكاب الجريمة، وهو السبب نفسه الذى يمنع رؤساء أمريكا من استخدام لفظ «إبادة جماعية» وهو لفظ له دلالات فى القانون الدولى، وبدلا منه يستخدمون تعبير مذابح أو مجازر أو تعبير الجريمة الكبرى «ميدز ييغيرن» التى نستخدمها نحن الأرمن مثلما يستخدم اليهود تعبير «هولوكوست».
∎ وما هى مطالب الأرمن؟
- الحدود الويلسونية.. وهى الحدود التى رسمها الرئيس الأمريكى (وودرو ويلسون) فى إطار معاهدة (سيفر) التى تم التوقيع عليها فى 10 أغسطس 1920، وعلى فكرة، الرئيس ويلسون رسم حدود كل من أرمينيا وكردستان فى إطار المعاهدة نفسها، ومساحة أرمينيا الويلسونية- هكذا يُطلق عليها- تبلغ حوالى 160 ألف كيلو متر مربع، أى حوالى خمسة أضعاف جمهورية أرمينيا الحالية، ولكنها فقط تساوى نصف مساحة أرمينيا التاريخية، علماً بأنه فى ظل الدولة العثمانية كان للأرمن ست ولايات إدارية بعضها ظل فى الحدود التى رسمها الرئيس ويلسون والبعض الآخر ظل خارج هذه الحدود.
∎ .. ولهذا السبب إذن يسعى الأرمن للحصول على الاعترافات من دول العالم!
- بالفعل.. فالأرمن استطاعوا منذ 1987 الحصول على اعترافات أكثر من 20 دولة ومنظمة دولية ذات ثقل سياسى، ولكن التركيز الأكبر فى الحصول على اعترافات من الولاياتالمتحدة وبريطانيا، فالشغل الشاغل لدى الأرمن والأتراك- على حد سواء الآن- هو الاعتراف الأمريكى، فالأرمن يعملون من أجل الإسراع فى الحصول على الاعتراف الأمريكى الصريح الواضح المعلن بالإبادة الأرمنية، والأتراك من جانبهم «بياكلوا النجيلة» لتأخير الاعتراف الأمريكى المتوقع حدوثه فى أية لحظة لأطول مدة ممكنة.
∎ مسألة أخلاقية
∎ وهل يطالب الأرمن المصريون الدولة المصرية بالاعتراف بالإبادة العرقية مستغلين تدهور العلاقات بين أنقرةوالقاهرة؟ وما هى أهمية اعتراف مصر بالإبادة؟
- الأمر أولا وأخيرا مسألة أخلاقية.. فمصر يحتم واجبها ومسئوليتها التاريخية الاعتراف بالإبادة الأرمينية من منطلقات أخلاقية صرفة قبل أن تكون لأسباب سياسية مادية- كأن تكون نكاية فى رجب طيب أردوغان بسبب الدور الذى يلعبه ضد مصر، وأهمية الاعتراف المصرى والعربى وكذلك الخليجى يكمن فى أن هذا الاعتراف سيجرد تركيا من آخر ورقة توت تتوارى وراءها، فالاعتراف العربى والإسلامى بالإبادة الأرمينية يعنى نزع الهيبة التركية وسط العالمين العربى والإسلامى نهائياً وسيكشف حقيقة (شرطى المنطقة) بكونه فى الأساس مجرد مجرم قاتل بلطجى.
والأهم أن المصريين فهموا قيمة الدولة، ماذا يعنى أن دولة كادت أن تمحى، والتى كاد نظام الإخوان أن يقضى عليها، ولذلك تستطيع مصر- 30 يونيو تفهم وضع الأرمن الذين أبادهم الأتراك ومحوا بلادهم محواً، فمصر الآن على الطريق الصحيح للدولة المدنية الحديثة، فالاعتراف المصرى بالإبادة الأرمينية يتماشى تماماً مع السياق المصرى الحالى، فالرسالة فى الحالة الأرمينية ستكون قوية بنفس قوة إعلان مصر الحرب على الإرهاب، فإعلان مصر الحرب على الإرهاب فى أعقاب خلع نظام الإخوان- من وجهة نظرى- كان أقوى وأهم من إعلان أمريكا الحرب على الإرهاب فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر. ∎ هارتونيان فى سطور
∎ مراد هارتونيان، صحفى مصرى أرمنى وناشط حقوقى تخرج فى كلية الإعلام جامعة القاهرة دفعة 1991، يعمل حالياً صحفياً ببوابة «بروأكتيف إنفستورز» فى تورنتو عاصمة كندا الاقتصادية.
∎ عمل فى السابق محرراً بقناة النيل الدولية فى القاهرة، وقناة (سى إن بى سى عربية) فى دبى، وكذلك مراسلاً لوكالة بلومبرج فى الرياض بالسعودية.
∎ صاحب رسالة ماجستير حول تأثير العلاقة بين الدولة والدين على محتوى الإعلام المصرى فى الفترة بين 0591 و5991 من الجامعة الأمريكية بالقاهرة