«إن فكرة هذا المعرض جاءت بعد محاولة اختطاف مصر.. ومحو ذاكرة وتاريخ الوطن.. والعودة إلى عصور الظلام بعد ثورة 25 يناير.. وأصبحت حرية الإبداع مستهدفة من قبل جماعات ليس لديها من الثقافة ولا الرؤية الحضارية ما يؤهلها لتقود الوطن إلى المستقبل.. جماعة لا تقرأ تاريخ الشعوب.. ولا تعرف دور الفن فى بناء الحضارات والتواصل عبر العصور.. ولا تعلم أن هذه الفنون التى بدأت من العصر البدائى إلى العصور الحديثة هى التى حفظت تاريخ الأمم وذاكرتها.. وهى جماعات ضد حركة الزمان والمستقبل.. جماعات تحمل الكثير من الخوف والكراهية.. وتريد أن تحول المرأة إلى كيان لا يمت إلى تراثنا ولا أصولنا التاريخية.. ولا السمات التى اكتسبناها عبر العصور المختلفة لتصبح المرأة المصرية.. امرأة كل العصور الجميلة على مر الزمان...... عاشت مصر حرة... الله.. الوطن.. الفن » بهذه الكلمات الواضحة والقاطعة.. تقدم الفنانة التشكيلية الدكتورة عقيلة رياض كتيب معرضها المقام حاليا بقاعة (الباب) بالأوبرا.. والذى اختارت له عنوانا يؤكد أنها تخوض معركة التحدى والوجود (مصرية على مر العصور). ولكى ندرك أهمية دور الفن والإبداع نكتشف أنه ولأول مرة يتصدر كتيب الفنان ما يشبه البيان السياسى.. ولأول مرة يذيل هذا (البيان) بشعار لا يقال إلا فى نهاية الأوامر العسكرية التى تصدرها القوات المسلحة (عاشت مصر حرة.. الله ، الوطن ، الفن ). إلى هذا المدى كانت الفنانة عقيلة واضحة وقاطعة.. وإلى هذا الحد هى صادقة مع نفسها وفنها.. وجمهورها الذى توجه له رسالتها التى تحملها لوحات معرضها.. وهى تدرك تماما أن هذه المعركة التى فرضت علينا هى معركتنا جميعا.. وعدونا وعدو الإنسانية لا يستثنى منا أحدا.. وعلينا جميعا أن نشحذ كل أسلحتنا لنقاوم هؤلاء المرضى الإرهابيين.. ومن أهم هذه الأسلحة هو الفن الذى يكنون له كل الكراهية والحقد الأسود.. وقد اختارت الفنانة عقيلة - عن وعى تام - الدفاع عن المرأة المصرية.. التى رأت أنها مستهدفة بإصرار من قبل هذه الجماعة الإرهابية.. فقدمت لنا المرأة المصرية كما تراها هى : ملكة وأميرة وعازفة وراقصة وبنت السبعينيات المنطلقة فالفنانة عقيلة رياض آلت على نفسها - منذ أن تخرجت فى نهاية السبعينيات - أن تعود إلى الجذور لتكتشف عبر دراساتها ثراء تراثنا العريق.. والبحث عن المرأة وجمالها الساحر عبر العصور.. فقد تخرجت عقيلة فى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية وحصلت على الماجستير عن رسالتها: (التحول الدينى وأثره على فن التصوير فى عهد أخناتون).. ثم الدكتوراه عن رسالتها : (القيم الفنية للرسوم على القطع الحجرية والفخارية فى الفن المصرى القديم ).. فارتبطت به وغاصت فى أعماقه لتخرج لنا من كنوز الفن المصرى القديم أجمل ما فيه.. وهو احتفاؤه بالمرأة المصرية على مر الزمان.. وأصبحت هذه هى قضيتها الفنية المتأصلة فى جُل أعمالها.. وقد أخلصت عقيلة لفنها.. وقضيتها ونسائها اللائى لعبن دور البطولة المطلقة فى كل أعمالها.. فأخلص لها فنها وأخلصت لها لوحاتها.. والمتتبع لمسيرة الفنانة عقيلة يكتشف دون عناء أن المرأة عندها رمز لأشياء نبيلة وقيم سامية.. وأيقونة مصرية خالصة.. وبطلة دائمة الحضور فى كل معارضها.. وهذا الإخلاص منحها طاقة خلاقة لممارسة درجة رفيعة من الصدق فى أعمالها.. فالصدق أيضا يحتاج إلى مهارة وإتقان.. لكى تتمكن من التعبير عن قضيتك باحتراف وتميز.. وهذا ما نجحت فيه الفنانة عقيلة.. فمنذ زمن طويل لم نر فنانة مصرية تمتلك هذا القدر من التألق.. وهذه القدرة على إنتاج لوحة تشكيلية محكمة البناء.. لقد نجحت عقيلة منذ البداية من الإمساك بخيوط مشروعها الفنى.. وهو المرأة المصرية.. وتمكنت بإصرار ودأب وإيمان أن تواصل عطاءها عبر رحلتها الفنية.. بإخلاص وإتقان.. دون أن تتخلى عن أصالة رؤيتها التى تنتمى لتراثنا الخالد على جدران المعابد.. وجداريات وادى الملكات والملوك.. فكان لها خصوصية وتفرد وتميز وضعها فى مصاف كبار الفنانين بلا منازع.. فلم تسقط فى سبيل البحث عن الجديد فى التغريب.. مبتعدة عن أصالة الماضى وإتقانه.. ولم تنس أنها تنتمى للقرن الواحد والعشرين بكل مدارسه الفنية الحديثة.. فاستخدمت كل التقنيات التى تجعلها دائمة الحضور داخل المشهد المعاصر.. فاستخدمت العجائن اللونية.. ولجأت إلى تبسيط الخطوط والأشكال.. واختزال البعد الثالث للكتل والأجسام.. فبدت كل عناصر اللوحة على اختلاف مستوياتها وكأنها فى مستوى مسطح واحد.. وعالجت ملامس الأسطح بألوان وعجائن خشنة الملمس.. حتى بدت وكأنها جدران المعابد الحجرية الفرعونية القديمة التى عشقتها الفنانة فى كل أعمالها. وقد اختلف معها الفنان التشكيلى والناقد عز الدين نجيب فى تقديمه لكتيب المعرض الخاص بالفنانة عقيلة.. وصرخ فى نهاية مقاله على طريقة طرفة القذافى الشهيرة : « أيتها الساحرات.. من أنتن !! ». وإن كان عز الدين نجيب قد عاد واعترف لها ب (الأخلاص للفن وحده).. إلا أنه اتهمها بخيانة الثورة !!.. رغم أنه أشاد بضميرها كفنانة متحضرة وأنها (بنت مشروع الحرية والتقدم ).. ورغم إيمانه بالحرية ودفاعه الدائم عنها !!.. إلا أنه أنكر على عقيلة حريتها !!.. وأعلن اختلافه معها وأن من سيختلفون معها أكثر ممن سيتفقون.. وهذا فى حد ذاته مصادرة لحرية الفنان !!.. أو وصمة بالخيانة لمبادئ الثورة !!.. وهذا يعيدنا لمدرسة الفن (الملتزم ).. التى ظهرت فى أعقاب ثورة 32 يوليو 25. وأوقعتنا فى التباس ظل حتى وقت قريب سببا جوهريا فى إقصاء العديد من المبدعين فى كل مجالات الثقافة والفنون.. فحرموا قسرا من تناول أعمالهم بالنقد.. وانحسرت عنهم الأضواء على مدى أربعة عقود.. لا لشىء سوى أنهم أنتجوا فنا لا يعزف على وتر الثورة وتوجهاتها.. وإنهم لا ينتمون إلى التنظيمات اليسارية.. وهذه المدرسة تبناها عبد الرحمن الشرقاوى وحسن فؤاد وكمال عبدالحليم ومحمود العالم وعبدالعظيم أنيس وفرسان كتاب مجلة الغد وهم من أطلقوا شعار (الفن فى سبيل الحياة).. فى مقابل الشعار الذى أطلقه طه حسين.. حين قال قولته الشهيرة: (إذا رأيت زهرة جميلة فلا تسألها كيف نبتت ولا لماذا نبتت؟).. فالفن والجمال لا يحتاجان إلى مبررات للوجود.. وظل هذا الخلاف قائما بين الفنان الملتزم.. وغير الملتزم.. وإشكالية الشكل والمضمون.. وها هو الفنان عز الدين نجيب يعيدنا إليها ثانية ونحن فى بداية الألفية الثالثة. ولكن فى نهاية الأمر فإن نساء عقيلة رياض الفاتنات فى معرضها الأخير (مصريات على مر العصور).. يمثلن خياراتها الشخصية ورؤيتها الفنية.. وعلينا أن نحييها على هذه القطع الفنية البديعة أيًا كانت خياراتها الخاصة.. وعلينا هنا أن نطرح السؤال الصحيح والصريح معا بلا مواربة.