فى الصباح الباكر توجهوا بسياراتهم إلى مزرعة بدعوة من صديق قديم ليمضوا يوما فى راحة من أعمالهم، كان الجو ليس صحوا تماما، ولا بردا تماما ولا حارا تماما، اتصلوا ببعضهم فى الليلة السابقة عندما علموا من الأرصاد الجوية، عن قدوم عاصفة اليوم وطمأنوا بعضهم أن الأرصاد الجوية لم تعد تتنبأ تماما لأن مناخ العالم لم يعد تماما، وليتوكلوا على الله ويذهبوا إلى رحلتهم.
بعد ساعتين تقريبا وصلوا إلى أهدافهم، كان منظر الطبيعة رائعا وعجيبا مليئا بالحدية والحزن الهادئ والسكينة، معظم الناس تجد الجمال فى الصورة الخارجية، أو الشكل الخارجى، الجمال يكون أكثر جمالا فى البشر عندما يضفى عليه صفات مثل الشرف، الصدق النظافة، الوردة تبدو جميلة المنظر إلا أننا نعتبرها أكثر جمالا، لذلك العطر الذى تحمله الزهرة التى منظرها أجمل من الوردة أحيانا يملها الإنسان لأنها لا تحمل فى داخلها عطر الوردة.
ومضى اليوم هادئا بدون تقلب ملحوظ فى الجو، غير أن الهواء بدأ يشتد قليلا باقتراب الغروب فقرر كبيرهم أن يبدأوا فى العودة قبل الليل، ربما تفاجئهم العاصفة، سخروا من عدم صحة أخبار الأرصاد الجوية، ومع ذلك بدأت رحلة عودتهم للقاهرة قبل منتصف طريق العودة أشار لهم ضابط أمام كشك صغير للشرطة، توقفت سياراتهم قال لهم أن يتوجهوا إلى استراحة قريبة فى الطريق وينتظروا بعض الوقت لأن عاصفة ترابية شديدة فى بداية الطريق من ناحية القاهرة، اتجهوا إلى الاستراحة.. كانت خالية تقريبا.. شغلوا عدة مناضد.. طلبوا مشروباتهم.. سأل أحد الرجال.. هل سنمكث هكذا فى انتظار العاصفة أو مرورها؟!طلبوا ألعابا للتسلية.. طاولة، كوتشينة.. شطرنج.. وانتقلت النساء الثلاث اللائى كن مع أزواجهن إلى منضدة بعيدة عنهم.. انشغلت اثنتان بمشاهدة التليفزيون.. وانشغلت الثالثة باسترجاع ذاكرتها فى الأيام السابقة بل فى السنة السابقة.
نظرت خلال زجاج الاستراحة إلى الأضواء فى خارجها تظهر وتختفى مع تمايل فروع الشجر مع الهواء الذى يشتد قليلا ويهدأ قليلا.. تماما مثل حالاتها.. نظرت تجاه زوجها وجدته اختار لعبة الشطرنج مع آخر وثالث يراقبهما، لم يلعب لعبته المفضلة هذه لشهور كثيرة.. كان عقله مضطربا وعاطفته مشوهة، وكانت هى ترى صورتها فى المرآة ليست هى المرأة الجميلة المحبوبة من حبيبها زوجها، كانت ترى صورتها قبيحة، فاشلة خاسرة غير محبوبة منذ ذلك اليوم الذى تحقق شكها فى انجذاب زوجها لأخرى تصغرها بخمسة وعشرين عاما وتصغره بثلاثين!.. فى أول الأمر لم تشك، فكثيرات من كليات الهندسة يذهبن إلى مكتب زوجها المهندس يستشرنه فى أعمالهن سواء الدراسية أو التنفيذية تعرف أنه ينجذب بعض الوقت لإحداهن ويحكى عن تفكيرها الجيد أو عملها وتعرف أنه أحيانا يدعو إحداهن إلى تناول الغذاء لتكملة العمل.. إلا هذه البنت فطلبها جديد.. فهى ستدخل به مسابقة معمارية فى أول الأمر أخبرها أنه يهتم بالبنت لأنها إذا كسبت المسابقة سيقوم مكتبه بتنفيذها، واطمأنت أن اهتمامه بها أكثر من اللازم لغرض عملى، أما أن يكون لغرض عاطفى فهذا ما أشعل قلقها خصوصا عندما شاهدتها فقد دعاها عدة مرات إلى بيتهما وتحدثت معها، ليست جميلة تماما لكنها جذابة بنشاطها وحيويتها بالحديث معها وجدت أن جاذبيتها خارجية مثل الزهرة لكنها بلا عطر داخلى مثل الوردة ولابد أن يكتشف زوجها هذا.
فهو خلال الخمسة وعشرين عاما لزواجهما لم يقع فى حب أخرى، إعجابه بالأخريات لم يقلقها، فهى أيضا تعجب برجال من خلال عملها، فلا يمكن أن يعيش الفرد دون أن يعجب بآخر غير رفيق حياته، لكن أن يقع فى الحب ويفسد حياته المستقرة المحبة هذا شأن آخر، الحب يفتر أحيانا بين الزوجين ويشتعل أحيانا مثل الغضب والرغبة والبهجة حبهما يمر بكل هذه المشاعر الإنسانية لكنه موجود بينهما ولم تكتشف أن زوجها لم يعد يجد الحب معها إلا عندما ذهبت معه إلى حفل إعلان الجوائز.
كان زوجها يجلس فى منتصف الصف الأول من قاعة الاحتفال وكانت تجلس على الجانب الأيمن وكانت البنت تجلس على الجانب الأيسر، عندما أعلن أن مشروعها فاز بالجائزة الأولى وبين تصفيق الحاضرين قفزت البنت بفرحة إلى مكان الزوج.«شاهدت نظرة عينيه وهى تمسك يده بكلتا يديها.. شعرت بخفقة الحب فى قلبه من نظرة عينة وشعرت بالغصة فى قلبى بالنظر إليهما.»
كان ذلك اليوم مع بداية صيف العام الماضى ولاحظت نشاط خطوات زوجها وهما عائدان إلى بيتهما، وثقل خطواتها شعرت أنه أصبح أصغر من عمره وأنها أصبحت أكبر من عمرها، ومنذ ذلك اليوم أصبحت تطاردها الكوابيس الليلية والشكوك النهارية سيرتبط زوجها أكثر بالبنت عندما يبدأ مكتبه الهندسى بتنفيذ مشروعها، وكتمت غيرتها وشكها حتى لا تصيبها كلمات جارحة مثل التى اتهمها بها فى بداية عمله فى مكتبه عندما ثارت على اهتمامه بمهندسة بعينها.
فى صيف العام الماضى وبطريقة فى إقناع زوجته وافقت على السفر إلى شاطئ البحر فى موعد مبكر عن سفرهما المعتاد، بفكرة أن زوجها شعر بقلقها ويريدها أن تأخذ إجازة من عملها ليزيل شكها.. منت نفسها برحلة هادئة تقرب بينهما.. لكن فى مساء اليوم الأول فى مقهى على الشاطئ وجدت البنت وأسرتها كثيرة العدد، انتقضت البنت لاستقبالهما وعرفتهما على أسرتها ضمت منضدة ومقاعد إلى جلستهم وكانت من الذوق ألا تضع مقعدها بينها وبين زوجها.. وضعته بينهما وبين أمها، يعنى تركت الزوج بجانب زوجته، فهو بجانبها فى المقعد المجاور فقط، أما عاطفيا فكاد أن يلتفت كلية ناحية البنت التى بدأت فى حديث هامس معه، ابتسمت الزوجة بشىء من السخرية والألم: هل يظنا أن العيون حولهما مغفلة؟! التقطت نظرات الأم بالزوجة بعد ملاحظتها لتصرف ابنتها تحدثت الأم مع الزوجة.. أى كلام وعند انصرافها مع زوجها قالت لها إنها كانت تعرف من ابنتها أنها جميلة لكنها لم تتصور أنها بهذا الجمال والذوق أيضا وكادت الزوجة أن تبكى وهى تسأل الأم.. أنا..؟!ويا لغرابة الحياة فقد كانت الظروف مع الزوجة، فلم يلتق الزوج بالبنت طوال الأسبوع الذى اختصره قبل انتهائه لم يكن سعيدا وأيقنت الزوجة أنه قد خاب ظنه، كما خاب ظنها من قبل.
خرجت الزوجة من ذكرياتها على أصوات بعض مسافرين دخلوا الاستراحة سألوهم عن العاصفة قالوا إنهم اجتازوها بصعوبة لكنها توقفت تقريبا فى منتصف الطريق بدأ المطر.. خرجوا إلى سياراتهم، جلست بجوار زوجها فى سيارته وعاد شريط ذكرياتها كان الصيف الماضى سيئا فقد انتظرت بداية عمل زوجها مع البنت فى تنفيذ مشروعها وانتظرت الأسوأ فى هجره لها.
كم من الأيام عشتها محبطة كم من اللحظات الحميمة لم يكملها معى.. كم من الكوابيس الليلية واليومية تحملتها.. لولا اهتمامى بعملى لكان أصابنى انهيار نفسى وجسدى وقررت أن أثور فالعاصفة داخلى لابد أن أخرجها لأرتاح والذى يحدث.. يحدث.. وجاءتنى الفرصة من أسبوع مضى عندما أخبرنى هاتفيا أنه سيتأخر وأغلق صوتى قبل أن أسأله شيئا آخر.. وشعرت بمهانة جديدة، عند غروب ذلك اليوم جاء وألقى سلاما فاترا وجلس بجانبى متعبا محبطا نظرت إليه مشفقة.. أجلت ثورتى قليلا، تظاهرت بمشاهدة التليفزيون قال بشعور إحباطه أن البنت التى ساعدها بل صمم لها مشروعها الفائز اختارت مكتبا هندسياً غيره لينفذه.. همست فى داخلى.. الحمد لله، قال إنه علم هذا منذ أسبوعين.. تساءلت فى صمتى ولماذا اليوم إحباطه، قام وقبل أن يترك حجرة المعيشة أخبرنى أنها تدعونا لحفل زفافها، كما لو كان هذا الخبر لم يحبطه فقاله بلا اهتمام لا أنكر شعورى بالتشفى وللغرابة أشفقت عليه امتزجت الراحة بالحزن وتحولت ثورتى المكتومة العاصفة إلى دموع زرفتها وحدى.. دموع ارتياح أم دموع على كل ما عانيته فى الشهور الماضية؟ ولأول مرة منذ عام يوافق على مثل هذه الرحلة ويصحبنى معه ولم يعتذر بانشغاله فى العمل.
بدأ المطر ينهمر بشدة أبطأ الزوج من سرعة السيارة أمسكت الزوجة بيده فوق عجلة القيادة قال بحنانه القديم ألا تخافى؟! قالت هامسة كأنها تحدث نفسها كأنها تواصل ما كانت تستعيده فى أفكارها، مواجهة مياه المطر أفضل من مواجهة عاصفة لا تدرى ماذا تحمله.