أعادتني حادثة وفاة الدبلوماسي الأمريكي المخضرم ريتشارد هولبروك اثر عمليات جراحية إلي ذكري أيام صعبة عشتها شخصياً بعد تعرض زوجي لنفس الأعراض قبل ما يزيد علي ثلاث سنوات، حين شعر بآلام مبرحة في منطقتي الصدر والظهر نتيجة حدوث تمزق في الشريان الأورطي الخارج من القلب. وغالباً لا يتمكن المريض من الوصول إلي المستشفي المناسب والمتخصص للتعامل بشكل فوري جراحياً، ناهيك عن المرحلة الأكثر خطورة وهي مرحلة ما بعد العملية وتجاوب الجسم من عدمه مع هذا التدخل الجراحي الصعب، لقد حمدت الله دوماً وسأستمر الذي هيأ أن يكون زوجي في مهمة عمل في هيوستن حين فاجأته الأزمة فقاد بنفسه للمستشفي وحتي مركز النابغة مايكل دبيكي (اسمه بالعربية مايكل دبغي) وهو أعظم جراحي القلب الذين شهدهم العالم حتي الآن. فهو الذي ابتكر وطور جراحات القلب وساهم في إنقاذ الملايين وكانت من ضمن أعظم اكتشافاته - إلي جانب زراعة القلب - هذه الجراحة التي أتحدث عنها هنا وهي استبدال الأورطي المتمزق بقماش طبي «الداكرون» التي حاكها في بدايات تجاربه علي ماكينة حياكة والدته بالمنزل دبيكي اللبناني والذي توفي قبل عامين وتحديداً قبيل أسبوعين من اتمامه المائة عام من العمر، ظل يقدم للطب حتي وفاته وللإنسان الكثير ولعل أهم إنجازاته ذلك المركز وأجيال من الجراحين والتلاميذ الذين يواصلون مسيرته حتي الآن، لم يترك وراءه مجرد مبان ومعامل ومركز أبحاث. بل ترك خبرات مستمرة في التطوير ونقل الخبرات ولعلنا نذكره هنا حين أرسله الرئيس كلينتون في فترة التسعينيات إلي موسكو ليجري عملية جراحية للرئيس يلتسين.. وقد كان الجراح النابغة مايكل ريردون أحد أهم تلاميذ دبيكي ولقد استمر في مهمته الإنسانية مع فريق عمل ممتاز استمر في البحث والابتكار لأحدث الجراحات والأساليب وقد أجري لزوجي نفس الجراحة الدقيقة بنجاح تام وتابعه مع فريق عمله المتميز علي مدي ستة أسابيع في العناية المركزة، بعد جراحة استمرت لعشر ساعات وهي جراحة دقيقة وخطرة ينبغي إجراؤها علي الفور ودون تأجيل. وحيث يتم تبريد جسم المريض تماماً بوضعه في الثلج لابطاء عمل أجهزة الجسم إلي أدني مستوي بينما يتم اخضاع المريض لعملية تخدير أكثر دقة وفي نفس الوقت ويتم وبسرعة وخلال مدة محددة زمنياً خياطة الداكرون بمقاس الأورطي الممزق وإعادة خياطته إلي القلب من ناحية إلي بقية الأورطي من ناحية أخري. وهي أيضاً مهمة دقيقة فمن الأورطي تنطلق شرايين أخري أدق تمد المخ والأطراف بالدم لذا فالعمل الميكروسكوبي والسريع والماهر يكون مفتاح نجاح هذه الجراحة الصعبة، وبعد إتمام الخياطة يتم إعادة القلب وإعادة ضخ الدماء وحيث ينقلون للمريض هنا «بلازما» فقط وليس نقل دم كامل وبينما يتم تدريجياً اعادة تدفئة الجسم يبدأون إعادة تشغيل بقية أجهزة الجسم المخ والكلي الكبد.. الخ وبعد ذلك يتم نقل المريض لعناية مركزة يخضع خلالها للمراقبة والمتابعة دقيقة بدقيقة لأن المرحلة الأكثر خطورة من العملية تكون بعدها فاحتمالات فشل أجهزة الجسم في استعادة وظائفها بالشكل الاحتياطي كبيرة أو حدوث جلطات قد تذهب مباشرة للمخ فتحول الإنسان إلي نبات وهو ما حدث للشاعر الفلسطيني محمود درويش والذي أجري العملية ذاتها ولكن بمستشفي آخر في هيوستن، ولأنه علم بالمضاعفات فقد أوصي في حالة حدوث تلك المضاعفات له بإنهاء حياته وعدم توصيله بأجهزة تحيله إلي نبات وقد نفذت وصيته بالفعل. إن حالات تعرض كثيرين لا سيما من صغار السن لهذا الزائر المفاجئ والقاتل قد تزايدت مؤخراً نتيجة تزايد ضغوط الحياة والعمل فتمدد الأورطي وانفجاره سواء بمنطقة القلب أو البطن أصبح شائعاً، ولذا نري حتي لاعبي الكرة مؤخراً يتساقطون في الملعب إذ إن التعرض للإجهاد الشديد أو التوتر وارتفاع شديد في ضغط الدم يكون المسئول لكن من حسن الحظ أن العالم قد تطور كثيراً وبدرجة مذهلة وأذكر كلمات الجراح العبقري مايكل ريردون وكانت أمريكا في أوج فترة حروب بوش - تشيني. حين حكي لي عن حالة مريض إيراني يعاني من حالة نادرة من سرطان القلب، وقد أخذت إجراءات حصوله علي تأشيرة الدخول للولايات المتحدة زمناً طويلاً أغضب الجراح ريردون، وفي النهاية تمكن المريض من الوصول وإجراء الجراحة بنجاح، لكن تأخره في دخول الولاياتالمتحدة تسبب في انتقال المرض الخبيث إلي أماكن أخري من جسمه وتوفي بعدها بفترة نتيجة إصابته بالسرطان مما أحزن الجراح الإنسان الرافض للحروب وعندما سألته لماذا لا تذهب بنفسك إلي الذين يحتاجونك وإلي مصر تحديداً، وافق بسرعة وقال إنه علي استعداد للذهاب إلي أي مكان مع فريقه سواء لتعليم وتدريب زملاء أو لانقاذ مريض، تماماً كما يفعل مع فريقه في مختلف أنحاء العالم. أعلم أن بمصر مراكز متخصصة ولكن كم منها معداً لمثل جراحات الانقاذ السريع الدقيقة هذه إن فريق عمليات هذه الجراحات يضم العشرات من الأطباء والجراحين من جميع التخصصات إضافة وهذا هو الأهم لفريق من الممرضين الكفئين من حملة الماجستير والدكتوراة والخبرة. أتمني أن يكون بمصر مركز مماثل لمركز دبيكي أو مستشفاه الماثو ديست الموجود بهيوستن وسط المركز الطبي، والذي تطالعك في ردهاته وجوه مصرية وعربية لأطباء ومتخصصين عظماء سيكون لنا حديث آخر عنهم لاحقاً..