كيلو لحم جملي مسلوق ثلاث ساعات علي نار هادئة من أجل أحمد وجه القتيل. بشرط أن يكون غروب الروح معزولاً عن شعوره بالخسارة، وكي يؤكد هذا الشعور يقول بعاطفةٍ أخيرة: كلب وراح. المسار العظيم لسمنة ملكة غناء الروح إريتا فرانكلين يساوي الافتراض الأكثر جمالاً واستحالة في الفيزياء النظرية، لأنه إذا أردنا تسريع المادة وتسخينها وتعريتها إلي عناصرها الأولي، ما قبل الكواركات بحسب ميكانيكا الكم، فنحن في حاجة إلي مُفاعل نووي في حجم مجرة. ولماذا لم يستطع أحد قولها: خطابة نيتشه. نرجس وشكرية شقيقتان عانستان، الواحدة منهما حَبَّة عين الأخري، ضفيرتان مُجدولتان جدلاً مُحكماً، تدهن نرجس كل خميس مفاصل شقيقتها بدهان للروماتيزم، ثم تمر بمكواة حديد دافئة علي ظهرها، بعد وضع فُدرة فوق ملابسها، وتطلب شكرية دائماً زيادة حرارة المكواة، كما تطلب المادة زيادة الحرارة، علي الأقل مُفاعل نووي بحجم مجرة، وعلي عكس النار الهادئة للحم أحمد وجه القتيل الجملي. عرض كتفي كيم نوفاك تحت سبعة ظهر فستانها العاري في فيلم فيرتيجو. في حلم لكافكا كان ذراعان من المعدن لنظَّارة طبية يخترقان اللحم والعظم عميقاً ومُباشرةً من وراء الحاجبين وعظْمة الوجنتين. ويظهران بعد غوصهما في اللحم ثانيةً علي السطح، ويلتفان هناك حول الأذنين. رحلة في الأعماق. كان كيركيجارد يغوص بأسمائه المُستعارة في الكتابة، ثم يعود باسمه الأصلي، مثل نهر ينضب في موضع، يختفي تحت الأرض، ليظهر مُتفجراً في موضع آخر، وكأنه يقول: ها أنا ذا. رتِّب ترتيباً كرونولوجياً ظهورات ألفريد هيتشكوك في أفلامه، مع انتخاب أقوي ظهور له، ربما وهو يعتني بكافولة طفل صغير، أو وهو يسحب كلبين صغيرين من النوع المُفضَّل لدي النساء، أو وهو يهرول بجسمه البراميلي القصير ليلحق باصاً يهم بالحركة. ليستْ البراميل العادية، وإنما براميل الطرشي الخشبية المنفوخة من الوسط، والمحزومة بسيور من الحديد، والمسحوبة بضيق عند الطرفين. ننوسة عين أحمد وجه القتيل، تزوجها علي كَبَر، علي زوجته القديمة أم عياله الشوحُطة، ننوسة العين الصغيرة غضبتْ من تغيير مُفاجئ في طبق زوجها، طلب أحمد وجه القتيل في اللحظة الأخيرة من زوجته إخراج كيس الكِرْشة الصغير من الفريزر، والاحتفاظ بشوربة اللحم الجملي. ولم تكن الننوسة الصغيرة تعرف أن شوربة الكِرْشة لا تصلح إلا لعين الكنيف. كِرْشة بالدِمْعَة علي شوربة اللحم الجملي، وأرز أبيض طاهر كالحليب، واللحم الجملي يحمَّر بحتة زبدة بلدي، وقابل يا معلِّم. هل كانت كيم نوفاك تضع علي سبعة فستان ظهرها العاري سلسلة تنتهي بمربَّع قلادة؟ الذاكرة تلح والنسيان مارد جبَّار، تلين الذاكرة تحت رطانة اللاأدرية، الذاكرة من طرف، والنسيان من طرف آخر. طرفان، طرف لا نهاية لضعفه، وطرف لا نهاية لقوته، فإذا كان النور الذي فيك ظلاماً فيا له من ظلام. نيتشه حماسي وخطابي وقليل الأدب أحياناً عندما يتجرأ علي أحكام كانط التأليفية، لكنه مع ذلك عجن الفلسفة بلحمه ودمه، فبدتْ حقائق الفلاسفة جميعاً باردة، حقائق لا تؤذي أحداً. علي فكرة لم أقل له شيئاً عندما رفع أصبع شرطه في وجهي وقال: بشرط أن يكون غروب الروح معزولاً عن شعوره بالخسارة، وكي يؤكد هذا الشعور يقول بعاطفة أخيرة: كلب وراح، وبهذا اختلطتْ علي الضمائر. أكان يتحدَّث عن نفسه بضمير الغائب، أم كان يقصد آخر بالفعل. وما هي الكلمات التي من المُفترض أنني تفوَّهت بها؟ كأنني قلتُ علي سبيل المثال: إن الروح لا تُستدْرَج بعيداً عن كل ما نُسب إليها. ابتكر كافكا في يومياته طريقة فريدة للنظر إلي مديره، لا سيما إذا كان الحديث يتعلق بالملفات التي يكرهها كافكا، ومع هذا صنع بها مجده الأدبي في مكاتب القلعة، وربما كانت طريقة النظر هذه هي ضمناً طريقة نظرته للبشر جميعاً. لا يستطيع كافكا التحديق طويلاً في عيني المدير دون أن تظهر في عينيه مرارة خفيفة تجبره أو تجبر المدير علي أن يصرف كل منهما نظره بعيداً. يشيح كافكا بنظرته لفترات أقصر، لكنها تتكرر أكثر مع كل مُبرر للنظر بعيداً، وربما لأنه لا يعرف السبب، يعود بنظرته سريعاً، لأنه يعتقد أن الأمر كله ليس أكثر من تعب مؤقت في عينيه، ويطوِّر كافكا طريقة نظره إلي عيني المدير، بأن ينظر بتعرُّجٍ علي امتداد أنفه وظلال خديه، ويبقي وجهه تجاه المدير بمساعدة أسنانه ولسانه داخل فمه المغلق. وعندما يشيح المدير بنظرته، ينظر كافكا مُباشرة إلي المدير، ويتابعه بدقَّة، ودون اهتمام. بتعبيرات الموسيقي، يحتفل الأدب الكبير، الأدب التقليدي، أدب الماجير، طوال قرون، بنظرة العيون، علي اعتبار أنها نافذة الروح، علي عكس الأدب الصغير، أدب المانير، لا يهتم كافكا كثيراً في أدبه بوصف العيون، وقد يكون سلوك الشخصيات أو أوضاعها الفيزيقية النافذة الحقيقية للروح. كان والد كافكا جديراً بفحص ووصف سلوكي وفيزيقي لا يرحم من قِبَل ابنه، ومع هذا لا نجد بسهولة وصفاً لعينيه، ولأن وصف العينين هو ألف باء الأدب الرشيد، ولأن هذا الوصف ساخن بطبيعته، ويؤكد الحياة، ولأن كافكا من ذوات الدم البارد، والنافي الأكبر للحياة، ولأدب الماجير، الأدب الكبير، فقد سلب بهدوء كل ما ينسب لنافذة الروح. إذن فقد تُستدْرَج الروح إلي مكان ناء، وهناك يتم تصفيتها نهائياً من كل ما ينسب إليها، وليس بعاطفة أخيرة نقول: كلب وراح.