أي عراق بعد شهرين ونصف شهر من الانتخابات؟ كان مفترضا أن تكون الانتخابات محطة أساسية، بل نقطة تحول في اتجاه تحديد أي عراق يريده العراقيون. فازت في الانتخابات القائمة "العراقية" التي كان علي رأسها الدكتور أياد علاوي الذي يؤمن بأن العراق يتسع لجميع أبنائه وأن في الإمكان إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية علي أسس سليمة في ظل قانون واحد وعصري لا يفرّق بين عراقي وآخر بغض النظر عن الطائفة أو المذهب أو المنطقة التي يمكن أن ينتمي إليها هذا المواطن أو ذاك. بعد فترة قصيرة، تميزت بالهدوء النسبي وتراجع حدة المناكفات بين السياسيين، جرت الانتخابات في أجواء شبه معقولة. لم تحل العمليات الإرهابية التي شهدتها مناطق عراقية عدة، علي رأسها بغداد، دون توجه العراقيين إلي صناديق الاقتراع رافضين الرضوخ للابتزاز الإرهابي من جهة ومن أجل التعبير عن وجود هوية وطنية عراقية من جهة أخري. ليس سرا أن قليلين كانوا يتوقعون تقدم "العراقية" علي لائحة "دولة القانون" التي يتزعمها رئيس الوزراء السيد نوري المالكي. كان تقدم "العراقية" التي ارتبط اسمها بأياد علاّوي دليلا علي أن الشعب العراقي لا يزال يمتلك القدرة علي المقاومة ورفض كل ما يمت بصلة للمذهبية والطائفية والمناطقية. بكلام أوضح، أراد العراقيون القول إنهم يؤمنون بالعروبة المنفتحة علي الآخر وأن هذه العروبة التي تعترف بوجود قوميات مختلفة في العراق ضمانة للجميع. أكثر من ذلك، تشكل هذه العروبة المنفتحة المرتبطة بكل ما هو حضاري في العالم الدرع الأقوي في مواجهة المد الإيراني وكل أنواع التدخلات الخارجية في العراق. كان الردّ الإيراني علي نتائج الانتخابات سريعا. هناك "فيتو" علي أياد علاّوي. سبب الفيتو أن رئيس الوزراء السابق ليس تابعا لأي حزب مذهبي ولم يكن خلال فترة النضال من أجل اسقاط النظام العائلي- البعثي الذي كان علي رأسه صدّام حسين لاجئا لدي الإيرانيين. كذلك، لم يقاتل أياد علاّوي ضد العراق خلال حرب الخليج الأولي بين العامين 1980 و1988 وذلك علي الرغم من أن صدّام يتحمل جزءا كبيرا من مسئولية اندلاع تلك الحرب المدمرة التي عادت بالويلات علي العراقيين والإيرانيين في آن. ولكن، علي الرغم من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها صدّام في تلك المرحلة، احترم اياد علاّوي نفسه ولم يقاتل أبناء شعبه. إنها الوطنية العراقية بامتياز التي عبّرت عنها شخصيات كثيرة ظلمها النظام العائلي- البعثي، لكنها أبت الدخول في الحرب إلي جانب النظام في إيران والأجهزة التابعة له. لا تكمن المشكلة في التركيز الإيراني علي الرجل فحسب بمقدار ما أنها أيضا تعبير عن رغبة إيرانية في وضع اليد علي العراق واختيار من يحق له أن يكون رئيسا للوزراء في هذا البلد المهم الذي تختزن أرضه ثاني أكبر احتياط نفطي في العالم. إنها عودة إلي المربع الأوّل الذي رسمته الحرب الأمريكية علي العراق. إنها بصراحة عودة إلي واقع لا بدّ من الاعتراف به يتمثل في أن هذه الحرب أسفرت عن منتصر واحد وحيد هو إيران التي تمددت في كل المناطق العراقية، خصوصا في الجنوب وبغداد، فيما بقيت المنطقة الكردية خارج دائرة نفوذها إلي حدّ كبير. من الواضح انّه كان مفترضا في الانتخابات الأخيرة أن تهيئ لانتقال العراق إلي مرحلة جديدة يكون خلالها مستعدا لانسحاب القوات الأمريكية من أراضيه السنة المقبلة. المؤسف أن الانتخابات التي كانت الآمال معلقة عليها من أجل استعادة المؤسسات العراقية في ظل حكومة متوازنة، تحولت إلي منعطف في غاية الخطورة. كشفت الانتخابات قبل كل شيء وجود رغبة للسيد المالكي في الاحتفاظ بالسلطة بغض النظر عما يقرره الشعب عبر صناديق الاقتراع. يبدو أن هناك صدّاما صغيرا داخل كل سياسي عراقي، أو لنقل داخل معظم العراقيين. ولكن ما قد يكون أخطر من ذلك، الإصرار الإيراني علي وضع العراق، باستثناء المنطقة الكردية، تحت هيمنة طهران. كان التنافس بين مجموعتين شيعيتين كبيرتين، احداهما بقيادة المالكي والأخري بقيادة "المجلس الأعلي" والتيار الصدري ظاهرة صحية، خصوصا في ظل وجود لائحة أياد علاّوي التي ضمت شخصيات من كل الطوائف والمذاهب. لكن وضع إيران ثقلها خلف الحلف المصطنع بين لائحة "دولة القانون" ولائحة "الائتلاف" قطع الطريق علي أي نوع من أنواع التفاؤل بمستقبل أفضل للعراق وبكسر الحواجز الطائفية والمذهبية بما يؤمن انتصار العقل علي الغريزة. علي العكس من ذلك، شرّع التدخل الإيراني الفظ في العراق الأبواب أمام طرح الأسئلة الكبيرة من نوع أين يمكن أن يتوقف التدخل الإيراني... أو علي الأصح هل من حدود للطموح الإيراني بالسيطرة علي العراق؟ ولعل السؤال الكبير الأهمّ ماذا سيحل بالعراق بعد الانسحاب العسكري الأمريكي الذي يحول في الوقت الراهن دون اندلاع حرب أهلية تتخذ طابعا مذهبيا؟ كل ما يمكن قوله، إن الأمريكيين دمروا العراق. لا يعني ذلك أن في الإمكان الدفاع عن نظام صدّام بأي شكل من الأشكال، خصوصا أنه ساهم في تدمير النسيج الاجتماعي للبلد عبر القمع من جهة ومغامرتيه المجنونتين مع إيران والكويت من جهة أخري. ولكن هل لا يزال في الإمكان لملمة العراق وإعادة تركيبه من دون المساس بوحدة أراضيه... شيئا فشيئا، يعود التشاؤم سيد الموقف في العراق. صار في الإمكان الحديث عن المأساة المستمرة للعراق الذي خرج من تحت جزمة ديكتاتور إلي دائرة الفوضي والنزاعات المذهبية. كان فوز "العراقية" في الانتخابات يجسّد الأمل، إلي أن تبين أن الوضع في هذا البلد الذي يشكل ركيزة من ركائز النظام الإقليمي فيه لا يبدو قابلا للإصلاح، أقلّه في المدي المنظور. لا يريد الإيرانيون شريكا في العراق. صار ذلك واضحا. ولكن هل مسموح لإيران أن تستمر في اعتماد مثل هذه السياسة الهجومية طويلا؟ أوليس ذلك دليل ضعف أكثر مما هو دليل قوة ما دامت وجدت نفسها، هي التي تعاني من مشاكل داخلية ضخمة، مضطرة إلي كشف كل أوراقها في هذا البلد النفطي الذي كان من المؤسسين لجامعة الدول العربية ولمنظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبيك). ما لا يمكن تجاهله لدي الحديث عن العراق ومستقبل العراق أن "أوبيك" تأسست في بغداد في العام 1960 ... قبل نصف قرن بالتمام والكمال!