في غرفة مكتبي ملصقات كثيرة لأفلام شاهدتها أو أجلت مشاهدتها لأجل غير معلوم. يعجبني الملصق فأشتريه حتي لو لم أشاهد الفيلم باعتبار أن أي ملصق جيد عمل فني في ذاته. أعلقه فور شرائه علي الحائط فيبقي هناك عدة أسابيع ثم أنزله بعد زهق وأعلق مكانه ملصقا آخر. الأفيشات القديمة أبرمها وأضعها في أنبوب من الكرتون المقوي لحفظها من التراب. والأفيشات الجديدة تظل محتفظة بلمعانها حتي تغطيها طبقة تكاد لا تري بالعين المجردة من حسو الأتربة وتعرجات القدم. الملصقات الكبيرة تهبط من عند خط التقاء الحائط بالسقف بحيث تصل حافتها السفلي إلي مستوي رأسي تقريبا. لكي أراها جيدا، يجب أن أبتعد قليلا عن الحائط وأتطلع لأعلي. أما الملصقات الصغيرة فتتجاور في أماكن جانبية من الغرفة، في كتف الباب، أو في مستطيل صغير علي عمود بجوار النافذة. أجلس علي مقعد المكتب الوثير كعادتي مع بداية كل يوم. أجرب أن أهدأ بعد معركة النوم والاستيقاظ. يظل مكاني المفضل هو المقعد أمام الكمبيوتر، أزحف نحوه بخطي ثقيلة، أجرجر النعاس في أذيال الروب السميك وأهبط فوقه مثل طائر عجوز حط علي عشه. فجر الأحد، الجو غائم في الخارج، ينذر بأمطار موسمية، واليوم عطلة. ليست لدي أدني رغبة في العمل، لا كتابة، لا شيء. أسترخي أمام الكمبيوتر المغلق وأتردد بين فتحه والعبث بمحتوياته، وبين الاستعانة بالورق والقلم لخربشة أي كتابة تصلح للتأمل أو للنشر أو لصندوق القمامة. علي الحائط المقابل للمقعد، نافذة تطل علي شجرة سقطت أوراقها وتعرت أغصانها، تتشكل علي خلفية من سماء رمادية داكنة، كأننا قاربنا الدخول في الليل. علي الحائط المتعامد مع حائط النافذة، أفيش أسود اللون، تهبط من أعلاه مشنقة تحتل ثلثي المساحة تقريبا. المشنقة مصنوعة من حبال خشنة مجدولة بعناية تتطاير منها شعيرات خفيفة من القش التقطتها عين الكاميرا وكبرتها عدة أضعاف. عنوان الفيلم مكتوب تحت دائرة المشنقة بحروف بيضاء مهتزة وتحته بقليل اسم المخرج بحروف أصغر، وتحتهما سطران يحويان تفاصيل أخري لا يقرأها أحد عن المنتجين والعاملين في الفيلم، مكتوبة بحروف لا تقرأ بالعين المجردة. أضيء الأباجورة الصغيرة وألتفت من جديد صوب النافذة. أي صباح هذا الذي يضطرني لإضاءة النور! السماء تضفي علي أغصان الشجرة الساكنة لونا شبحيا وأفيش الفيلم ينعكس بالكامل علي الزجاج. عيناي معلقتان بما أري ولكني لا أدرك له تفسيرا. بدا وكأني أري حبل مشنقة معلقا علي غصن شجرة. اختفت بالكامل خلفية الأفيش السوداء، ذابت في ضوء الخارج المعتم، والمشنقة تنتظر أن أفك شفرة وجودها المفاجئ هناك، علي غصن شجرة أمام نافذتي. يظل عقلي عاجزا عن فهم الصورة التي لاحت لعيني فجأة، وتظل عيناي مثبتتان علي ما أري وكأنها تنكره أو تنتظر أن يزول مفعول السحر وينفك التشابك المرعب بين العناصر المتداخلة. السماء تكتنفها الغيوم وتتحرك نشطة صوب الشمال، يجتازها الضوء من آن لآخر فيبهت انعكاس الصورة علي الزجاج وتكاد المشنقة تسقط عن غصن الشجرة. أشعر بفرح خاص هذا الصباح لأن الشتاء قد ولي ببرده القارس وصباحاته الكئيبة وبدأ الربيع بهوائه المنعش ووعوده المرحة. يزيدني فرحا أن هواجس الفشل وعذابات التردد لم تزرني منذ زمن، رغم أني داومت علي الاستيقاظ مع ساعات النهار الأولي والاستغراق في تأمل الكون النائم بحزن أليف. كأني قد نسيت عايدة وما سببته لي من تعاسة في الشهور الأخيرة السابقة علي وفاتها. كانت أقرب صديقاتي إلي قلبي لكنها لسبب مجهول لا تزال تساورني بشأنه الظنون قررت أن تقطع علاقتها بي وتسقطني من قائمة أصدقائها المقربين. كانوا أربعة غيري، كلهم من الرجال، لكني لم أكن مهتمة بأحد منهم، كانوا مجرد أفراد في "شلة" تحتمي بها عايدة من الوحدة، يقدم لها كل واحد منهم خدمات من نوع خاص تقول إنها لا تستطيع الاستغناء عنها. لم يكن في محيطها من يهمني غيرها، أصادق أصدقاءها من أجل الحفاظ علي صداقتي بها، حتي قررت دون سابق إنذار وبلا أدني تفسير مقنع أن تكف عن الحديث. تركتها أسبوعا حتي تهدأ وعاودت الاتصال بها، أنكرت نفسها، ثم أرسلت لي إيميلا طويلا تشرح فيه بلغة ركيكة وبإسهاب غريب أهمية أن أكف عن التعامل معها بغباء. وردت كلمة "غباء" في رسالة عايدة ما يقرب من ثلاثين مرة، بتنويعات مختلفة وفي مواضع لا تحتمل وجود الكلمة أصلا. اتصلت بها، تركت رسالة علي الأنسرماشين. كتبت لها إيميلا، ولم يصلني رد. اتصلت بواحد من أصدقائها وقال إنها ذهبت للاستجمام في بيتها القريب من البحر، لم يكن يعرف ما حدث بيننا، وبدا أنه غير مهتم بارتباكي وقلقي عليها. عول كل شيء علي غرابة شخصيتها، نفورها المفاجيء من الناس، أنانيتها المعهودة، عجزها عن تفسير مشاعرها إلا لو احتاجت لذلك بشدة. قال إن تليفون الشاليه مغلق منذ يومين. وقال إنها ستعود قريبا، لن تحتمل العزلة. عدت لتأمل الأفيش. كأني قد نسيت عايدة وذكرتني بها علامة الموت المنعكسة علي زجاج النافذة. لم تكن لدي قدرة علي القطع بحزم بمعني تلك الهواجس اللعينة التي أرسلها وسواس الفجر إلي مراكز التفكير في رأسي. ولم أكن أشعر بإجهاد لا في جسدي ولا في تفكيري، كنت أشعر بنشاط من نوع غريب لأن هواجس الفشل وعذابات التردد لم تزرني منذ زمن (أظن أني قلت ذلك من قبل!) ولأن غضبي علي عايدة ومنها كانت قد خفت حدته مع الوقت. كنت قد رأيتها للمرة الأولي تعتذر لشخص لا أعرفه عن تصرف بدر منها وتلح عليه أن يقبل أسفها، والرجل مستاء من تصرفها ومن إلحاحها في الاعتذار لأنه لا يجد مبررا للتصرف في المقام الأول، ولأنه يشعر بالحرج من الاعتذار الذي لم تكن لديه أدني رغبة في قبوله في المقام الثاني. بعد انصراف الرجل، رأيت عايدة تسحب نفسا من سيجارتها ثم تنفخه بغيظ في الهواء وهي تقول لواحد من أصدقائها إن هذا الرجل أغبي رجل قابلته في حياتها، وفهمت فيما بعد أن هذه الصفة كانت جامعة شاملة لكل الصفات التي لم تستطع عايدة أن تعبر عن كرهها لها ولا أن تفسرها.