تعرف العاصمة الفرنسية باريس باسم "مدينة النور" لأنها كانت أول مدينة في أوروبا تضيء طرقاتها بمصابيح الكيروسين،لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن اللقب الذي يلائم باريس أكثر هو لقب "مدينة الماء" خصوصا وأن نشأتها كجزيرة في نهر السين جعلها تتعرض للغرق أكثر من مرة، فكما وهب نهر السين الحياة لباريس وحمل لها الازدهار والنمو،جلب معه أيضا الهلاك والموت مع فيضاناته الدورية في فصل الشتاء. عن باريس وتعرضها لكوارث الفيضان في الماضي صدر مؤخراً كتاب "باريس تحت الماء: كيف نجت مدينة النور من فيضان 1910 الأعظم" لأستاذ التاريخ والدراسات البيئية جيفري جاكسون والذي يحكي فيه كيف كانت باريس تتعرض للفيضانات المدمرة التي تخفي معالم المدينة في الحقب الأولي من التاريخ،حتي أن اسم باريس في الماضي "لوتيشيا" كان مشتقا من الكلمة اللاتينية "لوتم" أي الطين. وثمة مقولة قديمة ترجع لعام 814 مجهولة المصدر تقول؛"عندما يريد الله معاقبة أهل باريس بالماء،فإنه يرسل فيضان السن ليغمرها"،إذا فالفيضان غمر باريس كثيراً لكنها لم تغرق تقريباً إلا في عام 1910،بحسب ما يوضح الكتاب،ففي أواخر يناير من ذلك العام أدت أحوال الجو غير العادية مع الهندسة الخاطئة للأرصفة لحدوث كارثة غير مسبوقة،ففي يوم 21 لاحظ سكان باريس ارتفاع منسوب نهر السين وروافده بشكل غريب ومع الذوبان المبكر للجليد ارتفع النهر ستة أقدام عن المعتاد،وفي يوم 28 ارتفع الماء 20 قدماً عن المعدل الطبيعي فتحطمت الأسوار وتسربت المياه للتربة وعمت أنحاء المدينة لتجعل الشوارع شبيهة بالقنوات المائية والميادين العامة بحيرات وفي غضون أسبوع غرقت مدينة النور لتصبح مدينة الماء كما وصفها المؤلف. ويقول جاكسون إن الفيضان ترك السكان محاصرين في منازلهم كما أطاح بخطوط التلغراف وغمر السكك الحديدية ومترو الأنفاق،وتسبب في زيادة أعمال السلب والنهب من الغوغاء في الشوارع،هذا بخلاف تسببه في نقص المواد الغذائية وتدمير بعض المصانع،واجتياح الفئران للبلاد ثم تخييم شبح وباء التيفويد،لكن جاكسون يوضح أن لويس ليباين حاكم مدينة باريس في ذلك الوقت،يستحق الثناء،إذ استطاع أن يسيطر علي الأوضاع قدر الإمكان بجمع فريق إنقاذ وفريق من الضباط لتوفير الأمن وجمع المشردين وتوفير الغذاء والمأوي لهم كذلك أسس ليباين فريقاًً لبناء الطرق والممرات ووفر القوارب مؤقتاً ساعده في ذلك رجال الدين ورجال الصليب الأحمر الذين سخروا كل جهودهم للبلاد حتي تمر الأزمة. ويؤكد جاكسون علي أن الإيثار وروح التضحية والأخوة بين الفرنسيين في ذلك الوقت هي ما ساعدت علي سرعة التغلب علي الأزمة كذلك يحكي العديد من القصص التي توضح أن هذا الفيضان الرهيب أبرز انتصار مبدأ "الأخوة الفرنسية" علي الانقسامات الاجتماعية والسياسية الراسخة. ويقارن جاكسون في كتابه بين إعصار كاترينا المدمر الذي اكتسح الساحل الجنوبي في الولاياتالمتحدة وبين ما حدث في باريس أيام هذه الأزمة فقد كان الوضع في باريس لا يوصف تماماً كما كان الحال في الساحل الجنوبي الأمريكي،لكن أهل باريس تلاحموا واستطاعوا أن يبنوا مدينتهم مرة أخري من العدم،لذا فإن كان فيضان 1910 يدل علي شيء فإنه يدل علي قدرة البلاد علي العودة من جديد مهما كانت الكارثة التي تعرضت لها وتشهد علي ذلك العاصمة الأوروبية المتلألئة التي تستحق لقب "مدينة النور" عن جدارة.