كانت سياسة التعليم المجاني لأبناء مصر مطلباً ضرورياً مثل الماء والهواء، نادي بها عميد الأدب العربي د. طه حسين وبعد ذلك تبنتها ثورة يوليو كمشروع قومي تنموي ضمن فلسفتها الاشتراكية التي تتيح لأبناء الوطن الواحد فرص تعليم مجانية متساوية، وأيضا فرص عمل لتضمن للطبقة الوسطي مكاناً لائقا في نسيج المجتمع المصري، بعد أن كان التعليم الأساسي والمتوسط والعالي أثناء الحكم الملكي واحتلال الإنجليز لمصر متاحاً أكثر لطبقة الأرستقراط والإقطاعيين الذين يملكون المال والأرض والنفوذ، وغير متاح إلا لفئة ضئيلة من أبناء الشعب الكادح. الآن بعد سبع وخمسين سنة من الثورة، نجد أن المشهد التعليمي في مصر قد تغير بصورة كبيرة نظراً للزيادة السكانية الآخذة في التنامي السريع، ونتيجة للتحولات السياسية والاقتصادية التي أعقبت هزيمة 67 وانتصار 73 واتفاقية السلام وصولا إلي عهد الرئيس مبارك الذي سعي بدوره خلال فترة حكمه من أوائل الثمانينيات إلي تحديث مصر وتحقيق أمنها وسلامها الاجتماعي. غير أن مجانية التعليم في الفنون الجميلة مثال صارخ علي عشوائية التعليم رغم النتائج الطيبة التي تحققها الكلية من خلال بعض أساتذتها المخلصين والقليل من طلابها الموهوبين، فلقد صارت الكلية أشبه بالمدرسة الإعدادية أو الثانوية المكتظة بالتلاميذ وفي تلك المدارس التي لا تتطلب سوي فصول ودورات مياه وفناء متسع وعدد محدود من المعامل وحجرات للمعلمين والموظفين يمكن معها أن تستوعب أعداداً غفيرة، لأن وسائل تعليمهم لا تتعدي سوي القلم والكشكول والديسك وسبورة وإصبع طباشير وفصل يجلس فيه التلاميذ إلي جوار بعضهم البعض. أما نوعية الدراسة في الفنون الجميلة فتتطلب أكثر بكثير من هذا في ظل وجود هذا العدد الغفير من الطلبة والموظفين والأساتذة علي اختلاف درجاتهم العلمية، حيث إن الكلية علي حالها من مبانٍ قديمة وحديثة نوعا ما موزعة علي عدد الأقسام الستة (عمارة - ديكور - تصوير - جرافيك - نحت - تاريخ فن) وكل قسم من أقسام الديكور والتصوير والجرافيك والنحت ينقسم إلي شعبتين متخصصتين، وهو ما يشير إلي أن طبيعة الدراسة ومنهجيتها والمواد والخامات والأدوات التي يستخدمها الطلبة، تتطلب سعة المكان وإضاءة كافية، وورشًا ومعامل ودواليب وحجرات تخزين ومكانًا متسعًا لانتظار السيارات وغيره من قاعات العرض، ومتحفاً كبيراً يضم أعمال الأساتذة والطلبة المميزين وحجرات كافية تسع العدد الكبير من الموظفين والعمال.. إلخ، وهذا غير متاح حالياً بصورة عملية تتيح العمل بيسر وراحة بال، ورغم أن الجامعة من جانبها لا تبخل علي الكلية بأي نفقات مالية للإنفاق علي الأبنية وصيانتها وتجديدها، وكذلك ما يستلزم من شراء أجهزة وخامات وأدوات، فإن المشاكل الأساسية التي تعيق سير العملية التعليمية وتحديثها بما يتفق مع المعايير الأكاديمية العالمية مازالت قائمة، وألخصها في الآتي:- 1- تنوعية الطلبة المقبولين بالكلية وأعدادهم بعد اجتياز اختبار القدرات (عمارة وفنون) خارج مقر الكلية، العديد منهم ليس لديهم الاستعداد الكافي ولا الموهبة التي تمنحهم الحق في دراسة الفن والعمارة، ومن ثم يصبحون عبئاً علي المكان وعلي بعضهم البعض وعلي المعلم أيضا. 2- كيف لنا التصور أن مصروفات الدراسة السنوية التي يدفعها الطالب (240 جنيها مصريا) سواء كان فقيراً أو متوسط الدخل أو غنيا من أجل تعلم قواعد الفن وصقل مواهبه حتي يصير بعد تخرجه مواطنًا ذا شأن في المجتمع، وتلك مهمة ليست رخيصة التكلفة بالتالي يجب إعادة النظر تماماً في قيمة المصروفات السنوية بما يتفق وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، بالإضافة إلي الرواتب الشهرية التي يحصل عليها أعضاء التدريس بالقياس مع الجامعات الخاصة والمصروفات السنوية الباهظة التي تحصلها من الطلبة المصريين والأجانب والمكافآت والرواتب الشهرية التي تمنحها لأعضاء هيئة التدريس من منتدبين وعاملين بها، فمجانية التعليم لا يجب أن يتساوي فيها الغني والفقير، والموهوب والهاوي إنما يجب أن يتمتع بميزة المجانية المتفوقون سواء كانوا فقراء أو متوسطي الدخل أو مقتدرين فهي شكل من أشكال العدل الاجتماعي من الضروري أن يذهب لمستحقيه. 3- تأن مجانية التعليم قرار سياسي ليس لأحد مهما كان أو مؤسسة علمية المساس به وإلغائه دون موافقة الجهات التشريعية التنفيذية، لأن المجانية خدمة جليلة أقرتها الدولة دستورياً لأبناء الوطن مثل عدم المساس برغيف العيش، غير أن المجانية تكون بهذه المصروفات السنوية القليلة في كلية عملية تتطلب الكثير، فأعداد المواهب كما أسلفت تحتاج إلي تشريع جديد واستثمار واعٍ للخريجين من أبنائها في سوق العمل وقرار منصف لزيادة رواتب الأساتذة الذي أمضوا في العمل ما يزيد علي الثلاثين عاماً ورواتبهم الشهرية لم تتجاوز الثلاثة آلاف وكسور، فأي علم وأي تقدير وأي إصلاح تبنيه الدولة للنهوض بالعملية التعليمية وبمستوياتها المهنية والإبداعية والأخلاقية؟ فاليوم يتمتع العديد من الطلبة بميزات لم تكن لغيرهم في سنوات مضت مثل السيارات، المحمول، بالإضافة للمصروف الشهري الذي قد يعادل راتب أستاذ، فكيف تستوي الحياة بين طالب علم وطالب نصف موهوب وأستاذ جامعي، معلم فن، لا يملك في حوزته سوي سيارة مستعملة، ومسئولية أسرية، والستر.