في إحدي لمحاتها الذكية تشير الفيلسوفة الألمانية الأصل "حنة أرندت" (1906 - 1975) في كتابها العلامة (في العنف) إلي أن: العنف كمفهوم وكظاهرة، لم يجلب اهتمام الفلسفة السياسية بصفة رئيسية، حيث إنها لم تسع إلي استجلاء معانيه ودلالاته، نظرا لاهتمامها الأساسي بمدي تأثير العنف علي الإنسان والمجتمع، ومحاولة احتواؤه أو توظيفه بالدرجة الأولي ، ومن ثم فأن السؤال عن: كيف يمكن تفسير العنف حين يصل إلي أقصاه، إلي حدود غير متوقعة، ويتحول إلي ما أسمته بالشر الخالص أو الشر المحض؟.. لم يجد الإجابة حتي الآن، وتلك هي المشكلة الأهم التي يجب علي الفلسفة السياسية مجابهتها في القرن الحادي والعشرين. الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور" (1913 / 2005) قدم أول محاولة مبتكرة للإجابة عن سؤال "أرندت" بالحفر عن جذور " العنف"، والبحث في مشكلة (الشر) أساسا. يقول "ريكور": "ان الشر ليس دليلا علي النقص، بل ان الوجود بدونه يصبح ناقصا"، وهو يربط بين مفهوم "اللاعصمة" الخاص بالإنسان ومشكلة "الشر" في العالم. ويتساءل عن: معني أن يكون الانسان خطاء؟.. ويجيب بأن امكانية الشر منقوشة في تكوين الانسان. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الألماني "ليبنتز" حين يقول: ان محدودية الانسان هي فرصة الشر المعنوي. ويحاول ريكور تصحيح هذه المقولة، فيؤكد علي أن "المحدودية" غير كافية بحد ذاتها لينبثق منها الشر، وإنما لأن الانسان غير متطابق مع ذاته. ومفهوم اللاتطابق أو اللاتناسب بين الإنسان وذاته هو الذي يجعل من المحدودية الانسانية مرادفا "للاعصمة". من هنا فإن مفهوم "اللاعصمة" يتضمن إمكانية الشر بمعني أكثر ايجابية: ف "اللاتناسب" عند الانسان هو القدرة علي الخطأ، بمعني انه يجعل الانسان قادرا علي ارتكاب الخطأ. ومن ثم فإن "الشر هو عبور من اللاعصمة الي الخطأ" 1 ان القول بان الانسان خطاء ، يعني أن المحدودية الخاصة بالإنسان الذي لا يتطابق مع نفسه ، هي الضعف الأصلي الذي ينبثق منه الشر. ومع ذلك فإن الشر لا ينبثق من هذا الضعف إلا لأنه يتموضع داخله، وهذه المفارقة ستكون في قلب رمزية الشر. 2 أما عن ماهية "الشر"، فإن ريكور يضعه في بعده العملي. فالشر هو هذا الذي نصارعه، بمعني آخر، ليس لنا أية علاقة معه سوي علاقة صراع وضدية . الشر هو هذا الموجود الذي ما كان يجب ان يوجد، ولانستطيع تفسير وجوده، "الشر يأتي للانسان كما الخارج بالنسبة للحرية". ان مشكلة "الشر" كما عالجها ريكور في كتابه "الانسان الخطاء"، يجب ان تقرأ في ضوء العلاقة بين الخير والشر، وهي غير منفصلة عن فلسفة الوجود وعن مشكلة الحرية، وحسب تعبير ريكور فإن مشكلة الشر هي (تحد للفلسفة واللاهوت في آن معا). ومن خلال معالجته للأسطورة، يخلص ريكور الي: ان الانسان ليس هو أصل الشر، فالانسان قد صادفه وأستأنفه، وهو ما يستبعد بالكامل أصل الشر في الإرادة السيئة التي يتهم بها الإنسان نفسه والتي يعترف بانه صاحبها. هذا من ناحية، من ناحية أخري قد تعني هذه المعالجة المبتكرة: ان الشر قديم قدم الكائنات وان الشر هو ماضي الكائنات، وهو ما هزم بإنشاء العالم، وان الإله (الخير) هو مستقبل الكائنات. والسؤال هنا هو: ما اذا كان الاعتراف بقداسة الاله وخيريته يؤدي الي استبعاد أصل الشر من دائرة الألوهية بشكل نهائي. وهكذا يتضايف السؤالان أحدهما للآخر: هل الاعتراف بقدسية الإله واعتراف الانسان بخطيئته يمكنهما وضع حدا لمشكلة الشر بشكل قاطع؟، وإلي أي مدي نجحا في ذلك؟ 3 ... للحديث بقية.