كندا ليست الجنة! فكرة أطارت النوم من عيني في الليلة السابقة علي بداية العام الدراسي الجديد. غداً تبدأ المحاضرات ولا أجد في نفسي الشجاعة الكافية للتدريس، لكني أعرف أنني سأستيقظ رغم ذلك نشيطة ومستعدة بعد أن حايلت نفسي قبل النوم وبعد أن حايلتني نفسي في الأحلام...ولكن ما العمل الآن؟ الساعة الثالثة صباحاً وأنا أجتر للمرة الألف قصة قديمة تذكرني أن كندا ليست الجنة، وأن بعض حياتي فيها ظللها الشقاء. قبل أن أحكي القصة، وهأنا ألف وأدور قبل أن أجاهر بما أريد قوله، أريد أن أقول إن المهاجر منا عندما يعيش في كيبك كل هذه السنوات لابد أن يصاب بأحد أعراض البارانويا، هذا لو لم يكن مصاباً بها أصلاً... كنت في منتصف الثلاثينيات عندما شعرت بأعراض البارانويا في صورتها البسيطة وهي تتسلل إلي أفكاري وتظهر من خلال تصرفاتي وأحكامي، ولا أستبعد أن تكون العدوي قد انتقلت إلي من عشرات المهاجرين مثلي ممن التقيت بهم في مونتريال وفي كيبك وحدثوني عن شعورهم بالاضطهاد والعزلة والحنين لوطنهم الأم. تبدأ القصة بعد الانتهاء من الدكتوراة، وقبل تعييني كأستاذ الدراسات العربية بجامعة أوتاوا. قضيت سنة كاملة في لا مكان، لا منتمية علمياً، ثقب هائل في ال"سي في" يشير إلي الفترة من مايو 2005 إلي مايو 2006 . حاولت في تلك السنة، وكما تقضي الأعراف أن "أتحرك"... فالحركة قانون صارم يتم تطبيقه علي الجميع هنا، ومعناها أن أترك الجامعة التي انتميت إليها وأن أبحث عن عمل أو مشروع بحث أو أي نشاط أكاديمي في جامعة أخري. بدأت في تلك الأثناء العمل بعقود تدريس مؤقتة في انتظار "الحركة" الكبري التي ستؤدي إلي الثبات الشامل، الوظيفة! ولأني لم أكن أسعي جادة إلي الوظيفة، سعت هي إلي، ولكن تلك قصة أخري. في تلك السنة، تقدمت بمشروع بحث موضوعه المقارنة بين المهرجانات السينمائية الكندية (خاصة مهرجان مونتريال ومهرجان تورونتو الدوليين) مع افتراض تأثرها في اختيار الأفلام وفي سياسات التحكيم بالثنائية الشهيرة التي تحكم العلاقة بالآخر وبقضية الأقليات الممثلين لهذا الآخر "المطلق" في كندا. تقوم الثنائية علي فكرتين متقابلتين: من ناحية فكرة التلاقح والحوار الثقافي المعمول بها في فرنسا - وفي كيبك باعتبارها تابعًا أصيلاً لفرنسا -، ومن ناحية أخري فكرة التعدد الثقافي المعمول بها في أمريكا الشمالية وباقي مقاطعات كندا الأنجلو ساكسونية والتي تقول بضرورة احتفاظ كل أقلية بهوية ثقافية أحادية تضعها في دائرة مغلقة ومحكمة. المشروع، بمنطق الانتماء للبلد المضيف، يبدو مقنعاً إلي حد كبير، والأهم من ذلك أنه غير مسبوق في الدراسات السينمائية ذات المنهج الاجتماعي. كان من المفترض أن يشرف عليه أستاذ متخصص من قسم الإعلام من جامعة كييك في مونتريال. دعاني الأستاذ بعد الموافقة علي الإشراف وفي انتظار حصولي علي المنحة المطلوبة، للانضمام كباحثة لمجموعة بحث عنوانها "ساحة الرأي العام في عصر الترفيه" وركيزتها المنهجية كتابات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. تفاءلت خيراً وانضممت للمجموعة المكونة من طلاب الماجستير والدكتوراة بالقسم، وكان المطلوب أن نلتقي مرتين شهرياً علي مدار العام الدراسي كله، علي أن نشارك بأبحاثنا في مؤتمر علمي كبير في نهاية العام. منذ البداية، صدمني تعالي الطلاب وثقتهم المفرطة بأنفسهم إلي حد أنهم يتناقشون فيما بينهم باعتبارهم "فوكالديين" أي منتسبين تابعين لفوكو أو متخصصين في فلسفته. مع الوقت اكتشفت استخدامهم الخاص جداً لكتابات هذا الفيلسوف والمعروف عنه نقده الشديد لفكرة السلطة في أعمال من أهمها كتاب "المراقبة والعقاب"، الذي يحلل ويؤرخ وينتقد سلطة مراقبة المرضي العقليين في المستشفيات وعقاب المجرمين في السجون. فيلسوف من أشهر المنتقدين للفكر السلطوي فإذا ببعض كتاباته عن مناهج بناء الذات تتحول لأداة سلطة في يد "أدعياء الفوكالدية" من الطلاب والباحثين. ينتقدون السلطة وهدفهم هو تأكيد سلطة الذات القومية والسيطرة علي الرأي العام بمقاومة الخطاب السائد...باختصار، تجديد إنتاج السلطة عن طريق إحلال سلطة بديلة للسلطات القائمة أو المهيمنة. بالطبع كانت لدي تحفظات علي هذا الفهم الملتوي لفوكو وعلي كلام البعض عن ضرورة الحفاظ علي الهوية الكيبكية (وليتني أعرف ما هي) في مواجهة غزو الأقليات... وبالطبع ووجهت تعليقاتي بقدر من التسفيه والتعالي، أو بالتجاهل التام والتهميش. بدا وكأني لست "فوكالدية" بما يكفي! أو أن ما قرأته من فوكو لا يكفي لانتسابي للجماعة، التي بدت بتعبير المفكر الفرنسي ميشيل مافيزولي، مثل قبيلة حداثية. شعرت بالبارانويا تنمو بداخلي وكأنها بذرة تنتظر من يرعاها وينميها، ولا أعرف إن كانوا هم أيضاً مصابين بها أم أني التقطتها من الهواء المتعفن الذي حل فجأة علي أفكارنا. فكرت أنهم يعاملونني هكذا لأني امرأة، أو لأني عربية، أو لأني مهاجرة، نظرت لنفسي بأعينهم وزاد الطين بلة كونهم بدوا ككتلة واحدة معادية، قبيلة في مواجهة الغريب. لو تحدثت عرضاً عن الأيديولوجيا، يسألني أحدهم: وما هو تعريفك لكلمة "أيديولوجيا"؟ ولو وردت كلمة ثقافة في تعليق أو سؤال كنت صاحبته، يستوقفني آخر سائلاً : وما هي "الثقافة"؟ كان حديث البعض يقتصر أحياناً علي سلسلة من التعريفات المحفوظة المأخوذة رأساً من كتاب يذكره المتحدث ويذكر تاريخ نشره ويقارنه بتعريف آخر من كتاب آخر لنفس المؤلف يناقض فيه المؤلف نفسه، فيما يفرح المتحدث لأنه أثبت بما لا يقبل الشك قدرته علي حفظ الأسماء وكشف المتناقضات. بدت التعريفات المتداولة وكأنها مسجلة في قاموس، ينتقي منها الواحد تعريفاً يسعده ويركن إليه وهو يشير بثقة لصفحة الكتاب المفتوح : ث - ثقافة. لكني لم أكن مستعدة لتعريف المفاهيم الكبري ولا لحفظها، أولاً لأني أنسي كثيراً وثانياً لأني أحتاج لوقت للتفكير قبل الحديث. وكلما تلعثمت في ذكر تعريف أو مرجع بدوت كأني طالبة طموح وبلا مؤهلات ضلت طريقها إلي قاعات البحث العلمي. باختصار، كان الموقف كارثياً بكل المقاييس! (يتبع)