استكمالاً للحديث عن الجامعات الأهلية بوجه خاص والتعليم العالي بوجه عام نجد أنه من أبرز سمات التعليم العالي في الولاياتالمتحدة أنه يمثل قيمة أساسية لدي الشعب الأمريكي، فالحصول علي شهادة جامعية يعد - بحد ذاته - المطلب الأدني للفرد للنجاح في الحياة وتأمين مستقبل وظيفي مضمون.. وإن من يطلع علي إحصاءات التعليم العالي في الولاياتالمتحدة يصاب بالدهشة والتعجب من هذا العدد الكبير من المؤسسات الجامعية التي أنشئت.. فإحصاءات التعليم العالي للعام المنصرم 2008 تشير إلي أن عدد المؤسسات التعليمية الجامعية يتجاوز أربع آلاف جامعة وكلية، وهذا العدد لا يتوافر - فيما أعلم - في أي دولة أخري في العالم. فولاية كاليفورنيا وحدها التي يبلغ عدد سكانها 35 مليوناً ونصف المليون تحتل المرتبة الأولي من حيث عدد المؤسسات الجامعية ب399 جامعة وكلية، وتليها ولاية تكساس التي يبلغ عدد سكانها 22 مليون نسمة ويوجد بها 201 جامعة وكلية جامعية. والسمة الأخري هي المشاركة الأهلية في إنشاء الجامعات والكليات وتأسيسها بمختلف أنماطها، بل إن الجامعات المرموقة التي تحظي بالسمعة العالمية مثل هارفرد وستانفرد وبيل ودوك وبنسلفانيا وبيركلي وغيرها كثير هي جامعات أهلية غير ربحية أنشئت من قبل مؤسسات وأفراد وأصبحت لها أوقاف واستثمارات ضخمة مما جعلها تتطور وتغدو من أهم مراكز التدريس والبحث والتدريب وإعداد القادة السياسيين والاقتصاديين في الولاياتالمتحدة وغيرها من دول العالم. ومما يميز مؤسسات التعليم العالي في الولايات الإنفاق الضخم علي هذا النوع من التعليم ومن مصادر مختلفة، فعلي الرغم من أن الجامعات والكليات الأهلية والحكومية تتقاضي رسوماً دراسية من الطلاب الملتحقين بها، إلا أن تلك الرسوم لا تمثل سوي نسبة محدودة من ميزانيتها السنوية، وتقدم المصادر الأخري مثل الدعم الحكومي وعقود البحث العلمي والاستشارات والاستثمارات والأوقاف والهبات الدعم الحقيقي لتلك المؤسسات، وتشير الإحصاءات إلي أن إجمالي الانفاق علي التعليم العالي في الولاياتالمتحدة يتجاوز 250 مليار دولار أمريكي في العام الواحد، وهو رقم ضخم جداً مقارنة بما ينفق علي التعليم العالي في دول العالم الأخري. ومن مصادر التمويل الأخري لمؤسسات التعليم العالي في الولاياتالمتحدة الهبات والهدايا المالية الضخمة التي تقدمها المؤسسات الأهلية سواء أكانت شركات ومؤسسات اقتصادية أم مؤسسات خيرية، فمثلاً تقدم مؤسسة بيل وميلندا جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت منحة للعلماء مقدارها بليون دولار لمدة عشرين عاماً لعدد من البرامج الجامعية، وقدمت مؤسسة وليان وفلورا هيلويت الخيرية هبة لجامعة ستانفورد عام 2001 مقدارها 400 مليون دولار، وقدمت مؤسسة باتيرك ولورا مكفوفن لمعهد ماسشوتس للتكنولوجيا هبة مقدارها 350 مليون دولار.. وهكذا. أما الأوقاف فهي تمثل أيضاً واحداً من مصادر التمويل للجامعات الأهلية، فقد بلغ إجمالي أصول الأوقاف لجامعة هارفرد لوحدها 18 ملياراً وثمانمائة مليون دولار، تليها جامعة بيل بأكثر قليلاً من 11 مليار دولار ثم جامعة برنستون ب 8 مليارات دولار. ولا شك في أن تفوق الولاياتالمتحدة علي الصعيد السياسي والاقتصادي والتكنولوجي لم يأت من فراغ بل جاء نتيجة وجود بنية علمية صلبة تتمثل في بناء مؤسسات ذات كفاءة عالية في التعليم العالي ومؤسسات جديرة بالبحث العلمي وشركات ومؤسسات للإنتاج والتصنيع التي تستفيد من تلك العقول النيرة التي تحتويها تلك المؤسسات الجامعية والبحثية. وإني أنادي "اتركوا جامعة النيل فإنها جامعة لا تحقق ربحاً، ولكنها تحقق علماً!".