بقلم: المستشار د. محمد الدمرداش تناولنا في مقال الجمعة الماضي الحقيقة الراسخة التي تجاهلها كثير من الحركات الإسلامية السلفية المتشددة من أن الإسلام الحنيف لم يرسم يوماً شكلاً محددًا ثابتًا للدولة أو النظام السياسي، لا في القرآن الكريم ولا السنّة النبوية المطهرة. وعندما شكّل النبي صلي الله عليه وآله وسلّم، حكومتَه في المدينةالمنورة، كان ذلك بتدبيره الشخصي بحسبانها الأنسب لشكل المجتمع البسيط في المدينة، وننتقل اليوم للحديث عن شكل الدولة الإسلامية في فترة الخلفاء الراشدين حيث لم تُصَغ نظرية واحدة محددة لتداول السلطة وكيفية اختيار الحاكم، حيث لم تستند بيعة الخليفة الأول إلي مبدأ شرعي متفق عليه - بصرف النظر عن جليل مكانة أبي بكر الصديق - ودون استناد إلي مبدأ شرعي، سواء كان نصًّا أو احتكامًا إلي اجتهاد في غياب النص، حيث لم تكن دائرة الشوري التي تنتخب الإمام واضحة تمامًا، وهل تضم المهاجرين والأنصار أم تقتصر علي المهاجرين أم علي قريش عمومًا، كما لم يكن واضحًا أيضاً مَن الفئة التي يحق لها الترشح للإمامة، وهل هي مقتصرة علي المهاجرين من قريش أم تشمل الأنصار وبقية الصحابة ممن أسلم بعد الفتح. وقد أدي كل هذا الأمر إلي غياب قاعدة شرعية ملزمة سواء في بيعة الصديق أبي بكر أو في مَن أعقبه إلي أن يسود بعد ثلاثين سنة مبدأ الغلبة، حيث لا تشريع يحول دونه، وعليه قامت واستقرت إمرة بني أمية وبني مروان، وإن كان الاختلاف بعد وفاة الرسول (ص) لم يفضِ إلي انشقاق، ولكن بذرته قد كمنت، وزاد الأمر تعقيدًا أن تباينت طرق اعتلاء الخلفاء الثلاثة، فقد تمت بيعة أبي بكر علي مرحلتين، كانت البيعة الأولي في سقيفة بني ساعدة، والتي تمت بمبادرة من قبل عمر بن الخطاب بصورة عاجلة وفي أجواء متوترة، ولم يشترك فيها سوي مجموعة من قيادات الأوس والخزرج، حتي إن عمر انتقدها بعد ذلك بقوله: "إلا ان بيعة أبي بكر كانت فلتة وقي الله شرها، فمن عاد الي مثلها فاقتلوه»، إلا ان بيعة أبي بكر أصبحت شرعية في المرحلة الثانية عندما ذهب الي المسجد وبايعه عامة المسلمين في المدينة، ورضوا به، وبالطبع لم يكن يمكن في تلك الظروف أن يتم أخذ البيعة من بقية المسلمين خارج المدينة في ذلك اليوم، ولم يمكن أن تتوقف خلافة أبي بكر علي استشارتهم و أخذ رأيهم في الموضوع، خاصة أن المهاجرين والأنصار كانوا هم الطليعة الرسالية التي جاهدت من أجل نشر الدين الإسلامي، والنخبة القبلية التي تمثل غالبيتهم، ولم تكن ثمة أي مجالس استشارية معدة ومتفق عليها من قبل وتضم رؤساء الأحزاب والملوك والقبائل العربية، حتي يتم اللجوء اليها لبحث موضوع الخلافة أو اختيار الخليفة الجديد، إذ إن العملية تمت بصورة عفوية وسريعة. وظل أبو بكر يعتقد أن السلطة هي من حق الأمة، وأنها لم تتنازل له عن حقها الي الأبد، ولذلك فقد كان يؤمن بأن من حق الأمة ان تستعيد السلطة منه متي تشاء، حتي إذا لم يرتكب جرمًا أو ينقض عهداً يوجب عزله، فقد قال في خطبة له قرب وفاته:" إن الله ردَّ عليكم أمركم فأمِّروا عليكم من أحببتم". ولما فرغ من قتال أهل الردة قام في الناس خطيباً ثلاثة أيام يقول: "أقيلوني". فقام اليه الإمام علي فقال:" يا أبا بكر، لا نقيلك ولا نستقيلك". ثم استخلاف للفاروق عمر، الذي رفض كسلفه أبي بكر أن يحوِّل الخلافة الي ملك عضوض بأن يورث الحكم الي أبنائه، رغم اقتراح بعض الصحابة عليه ذلك، إذ قالوا له:"يا أمير المؤمنين إن في عبد الله للخلافة موضعاً فاستخلفه، فإنا راضون به" فقال عمر:"حسب آل الخطاب تحمل رجل منهم الخلافة. - والتفت الي ابنه محذراً - : يا عبد الله إياك ثم إياك.. لا تتلبس بها". ثم أن تكون في ستة هم المرشحون والناخبون علي السواء. وقد تحول الأمر مع بدء المداولات إلي أن يصير المرشحون خمسة والناخب واحدًا، لأن الأمر أوكل إلي الصحابي عبد الرحمن بن عوف وحده ليقرر بكلمة منه أخطر قرار في تاريخ المسلمين. ويلاحظ علي اختيار عبد الرحمن بن عوف أنه بُني علي قاعدة غير معروفة في الشرع، إذ قرن سيرة الشيخين أبي بكر وعمر بالقرآن الكريم وسنّة الرسول (ص) شرطًا علي كل من عثمان وعلِي، ولم يقُل أحد من قبلُ ولا من بعدُ إن سيرة الشيخين تُقرَن بكتاب الله وسنّة رسوله، وحين أراد علِي أن ينبهه إلي ذلك وأن التزامه سيكون بكتاب الله وسنّة رسوله فقط وأن يجتهد مثلما اجتهدا، اتجه عبد الرحمن بن عوف إلي اختيار عثمان بن عفان. وأخيرًا استخلاف الإمام علِي في ظرف شديد الاستثناء وفي أجواء من الهرج بعد مقتل الخليفة الثالث. و موقف الامام علي بن أبي طالب من السلطة وأنها من حق الأمة، أشهر من أن يذكر. فقد كان الامام يؤمن بحق الأمة في الشوري، وبحق جميع المسلمين في الترشيح والانتخاب حيث يقول: "الواجب في حكم الله وحكم الإسلام علي المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ألا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدءوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة. وقد أعلن رفضه لتأسيس الخلافة علي أساس الأعراف القبلية الجاهلية، أو حصر الخلافة في قريش فقال في خطبة له: "أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي علي الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل، فيضلهم بجهله، ولا الجافي، فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول، فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي، فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة، فيهلك الأمة". ودون الدخول في تفاصيل الأحداث التاريخية لكل استخلاف بما لا يتسع له المقام ، فإن ما نستفيده من السرد السابق لكيفية تولي الخلفاء الراشدين لمسند الخلافة هو عدم وجود نص ديني يرسم شكلاً محدداً للدولة الإسلامية. وان كل ما حدث كان باليقين تلقائيا وعفويا ومن وحي الاجتهاد السياسي للصحابة. ورغم غياب النص والسوابق التي ترسم شكلاً محددا للدولة الإسلامية وما تفصح عنه ممارسة الرسول وخلفائه الراشدين عن أن الحكم والدولة من شئون الناس الحياتية لا الدينية، يتواضعون عليها بما يصلِح دنياهم دون خروج علي أحكام الإسلام ونواهيه، فإن اعتقاد أن الحكومة من شئون الدين وأنها من جملة الأحكام الدينية شاع واستقر في نفوس وعقول كثير من دعاة ومنتسبي الحركات الإسلامية، ورغم أن كل من له يسير علم بالإسلام وشرائعه يعلم أن أصول الدين هي التوحيد والمعاد والنبوة والعدل، وأن أركانه الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج فقط، وهو ما كان يحرص رسول الله (ص) علي إنفاذه بين المسلمين دون إلزامهم بشكل للقيادة والحكم كما أسلفنا، وأشد المدافعين عن الشكل الإسلامي للحكم لا يستطيع أن يسوق دليلاً واحدًا من القرآن أو السنّة أو ممارسة الخلفاء الراشدين يرسم بدقة ويبين بجلاء شكل الحكومة الإسلامية، لأن كلاًّ منهم مارسها وفق معطيات وظروف واقعه وزمانه. نعم، هناك روايات عديدة تسهب في الحديث عن أهمية الحكومة وصفات الحاكم العادل النزيه، ولكنها لا ترسم بحال معالم الحكومة الإسلامية ولا تقيم أركانها، التي بحسب طبيعتها ظاهرة بشرية تنشأ وتتطور بمقتضيات الزمان والمكان، والدول المسلمة السكان التي تطبق أحكامه تقام أركانها ومؤسساتها الدستورية من واقع اختيار الناس وانتخابهم ممن تتوافر فيهم شروط القيادة، لا أمارات الصلاح والتقوي، وقديمًا أفتي علماء المسلمين مثل ابن طاووس وكذا الإمام الشاطبي بأن الكافر العادل أفضل من المسلم الظالم، وعللوا ذلك بقولهم: "إن الكافر العادل عليه كُفره ولنا عدله، فيما المسلم الظالم له إسلامه وعلينا ظلمه". وللحديث بقية إن كان في العمر بقية. وكيل مجلس الدولة.. ورئيس محكمة الجامعة العربية