علي الرغم من انشقاق الصف الوطني الذي أعقب الاستعجال في إجراء استفتاء مارس، الذي تواصلت فصوله حتي جمعة الغضب الثانية وكان آخر تلك الفصول قرار الإخوان عدم مشاركة جميع القوي الوطنية تظاهرها، حفاظا علي المكتسبات المباشرة للجماعة، سواء التي تتصور حصدها في الانتخابات البرلمانية المقبلة، أو عبر التوافق في خطة العمل مع المجلس العسكري، والتي توحي للبعض بوجود اتفاق ما (لن أقول صفقة) بشأن منح الإخوان الفرصة لإعداد الدستور الجديد مقابل الحفاظ علي وضع خاص (أو مميز بتعبير أحد أعضاء المجلس العسكري) للجيش في الدستور. أقول إنه بالرغم من هذا الانشقاق فإن الفرصة سوف تظل قائمة للتفكير في ملامح المشترك بين التيار الرئيسي للشعب المصري، وتأجيل الجدل بشأن المختلف حوله، علي قاعدة أن لكل شعب ركائزه ومقومات هويته. في مقدمة هذه المشتركات: الإيمان. مع ملاحظة أن الإيمان يظل قاسما مشتركا بين المسلمين والمسيحيين، بدليل جميع استطلاعات الرأي التي أجريت علي الشعب المصري والتي جاءت نتائجها لتفيد بأن الشعب المصري كله تقريبا متدين، دون أن تفرق هذه الاستطلاعات بين مسلم أو مسيحي. لهذا فإن المكانة الخاصة للإيمان لا يمكن تجاهلها أبدا أثناء التفكير في مرتكزات التيار الرئيسي. المشكلة في ترجمة الإيمان إلي مواد فوق دستورية، فثمة تشدد من قبل عدد كبير من المسلمين في التمسك بالمادة الثانية، يقابله تخوف مفهوم بالطبع من قبل المسيحيين، ومن قبل عدد كبير أيضا من المسلمين. وفي ظني أن مشكلة المادة الثانية ليست بالمشكلة الكبيرة إذا ما فكرنا في أن وجودها طوال السنوات الأربعين الماضية لم يشكل أزمة لدي المسلمين ولا المسيحيين، ففي ظني أن التمييز ضد المسيحيين كانت تصنعه سياسات نظام مبارك وليست أي من مواد الدستور، فما فائدة الدستور نفسه إذا كنا بإزاء سلطة استبدادية! التمسك بوضعية خاصة للدين في الدستور لا يمثل مشكلة كبيرة في نظري، المشكلة الحقيقية سوف تكون خارج الدستور إذا جاز الوصف لأنها تتعلق بمن يضع تصوره عن الدين أكثر من تضمن الدستور نصا يفيد بتبني الدولة دينا بعينه. ولتلافي هذه المشكلة يجب الاتفاق علي تضمين وثيقة الحقوق ما يضمن ألا يمثل اعتراف الدولة بدين بعينه (أو حتي بمبادئه كما هو نص المادة الثانية) تمييزا ضد أي ممن يتبنون مذهبا أو دينا مخالفا، ولا يتسبب في التضييق علي ممارسة أي من هؤلاء لدينهم، وأن تكون الدولة مسئولة عن رعاياها في ضوء المواطنة والتساوي بين المواطنين بغض النظر عن اختلافهم في الدين أو الجنس. وما لا يفهمه التيار الأصولي (سواء الإخوان أو الوهابيون أو الجماعة الإسلامية أو غيرها) بحكم أنها التيارات المعنية بمفهوم الدولة الإسلامية أن الأخير يضر بهم أكثر مما يفيدهم، ذلك أن تبني الدولة الإسلام سوف يلزمها بإقرار مذهب بعينه أو علي الأقل مرجعية فقهية بعينها، باعتبارها الإسلام، والأقرب في هذه الحالة هو تبني المرجعية الفقهية للأزهر الشريف، أي الأشعرية، وهي المرجعية التي تختلف مع تلك التيارات اختلافات بعضها ظاهري وأكثرها جوهري، ما يعني أن علي الدولة في تلك الحالة ونتيجة اعتمادها نسخة من الفقه باعتبارها الإسلام سوف تمنع أي ممارسة أو أي نشاط دعوي يخالف هذه النسخة، ولعل موقف الخليفة المأمون من المعتزلة ومحنة الإمام أحمد بن حنبل دليل علي ذلك. فماذا لو اعتبرت الدولة الإسلامية الجديدة أن التيار الوهابي (المسمي خطأ بالسلفية) تزيدا في الإسلام وأن أصحابه خارجون عن الملة، أو ماذا لو استسلمت الدولة لفتوي أن الإخوان خارجون عن الإسلام لتبنيهم رسائل حسن البنا "المحدث" كمرجعية فقهية! وفي نفس الوقت ففي تقديري أن الذين يبدون تخوفاتهم من تصدر الإسلام السياسي والأصولية المتشددة صدارة المشهد السياسي والاجتماعي بعد الثورة لا يفهمون الشعب المصري حق الفهم، أو علي الأقل لا يفهمون التيار الرئيسي منه. صحيح أن التيار الرئيسي برمته متدين يضع الدين في صدارة أولوياته مسلمين ومسيحيين غير أن التيار الرئيسي من المصريين إيمانهم وسطي، أو بتعبير أحد الأصدقاء "إيمانهم ليبرالي"، فالمصري لا يضحي بحريته في ممارسة شعائره بقدر رفضه التشدد والعسر في فهم الدين. المصري لا يفوّت صلاته أبدا ويتمسك بفروض دينه لكنه أيضا لا يفوّت مباراة الكرة ولا الفيلم الجديد الذي تعرضه إحدي القنوات حصريا، وقد يفضل ألا يشتري إلا من أبناء دينه لكنه أبدا لن يتجاهل دعوة جاره المؤمن بغير دينه، وقد يقبل شهادته لأنه يعرف أنه "رجل محترم" ولا يكذب أبدا، وقد يشيد بآخر من غير ملته لأن أخلاقه فوق الشبهات، بل إن البعض من التيار الرئيسي يوقر آل الرسول توقيره لمار جرجس. لذلك فإن بناء الدولة المدنية الحديثة التي يحلم بها الثوار لا يمكن تجاهل الدين فيها باعتباره أمرا مميزا في منطق المصريين وثقافتهم، وفي الوقت نفسه لا يجب أن يتخذ ذريعة لتمييز بعض المواطنين علي البعض، فالدول ذات الحكم المدني قد تعترف بالأغلبية الدينية (والسياسية) لكنها أبدا لن تجعل من اعترافها هذا حجة لدي الأغلبية للاستبداد بالأقلية ولا بالتنكيل بهم، لهذا نحتاج أن تتضمن وثقة الحقوق التي من المفترض أن يتبناها التيار الرئيسي اعترافا بتمايز الإيمان مع التشديد علي عدم التمييز بين المواطنين لا في حقوقهم ولا في واجباتهم في علاقتهم بالدولة، وعلي أن المواطنين أحرار في اختيار العقيدة، وفي الاختيار فيما بين الإيمان أو عدم الإيمان، وأنهم متساوون في حقوقهم بشأن ممارسة شعائر دينهم، وأنهم متساوون في حقوقهم بشأن بناء دور عبادتهم، وأن الاعتداء علي دور العبادة أو التهديد به أو التحريض عليه، أو منع أي من المواطنين من ممارسة عقيدتهم بأي صورة كانت يعتبر خيانة عظمي للوطن، لأنه يميز بين مواطنين أولا، ولأنه يضرب استقرار الوطن وسلامة نسيجه الاجتماعي ثانيا.