عندما تصطدم الظروف الاقتصادية والمعيشية السيئة والصعبة بالبلاد بمتطلبات الحياة البسيطة والمتواضعة للمواطن ويصعب عليه تحقيق التوافق بينهم فتضطره هذه الظروف للخروج لمواجهتها بكل ما أوتيت من قوة.. فإما أن يصيبه اليأس بالعجز والانكسار والهزيمة ويصبح فريسة سهلة للفقر والمرض.. وإما يزيده إصرارًا وتحديًا لمواجهة هذه الظروف سعيت وراء لقمة العيش وتحقيق الأمانى والأحلام وإثبات الذات. فتعد بطلة قصتنا نموذج لهذا التحدى بما تواجهه من ظروف صعبة بل بكل قوة رغم عمرها الذى قارب الستين عامًا فتحاول تذليل العقابات أمامها واجتياحها لتحقيق ما تبقى لها من أحلام. نشأت فى بيت متوسط الحال.. فهى واحدة من ثلاث بنات وولد لأب كان يعمل موظفًا وأم ربة منزل. من مواليد 1955 وقد تزوجت فى عام 72 من لبنانى وسافرت للإقامة معه فى لبنان وكانت تعيش حياة زوجية هادئة ومستقرة رزقت خلالها بأبنها محمد الذى أصبح فيما بعد طالبًا بكلية الصيدلة.. وفجأة انقلبت الحياة رأسًا على عقب بظهور سيدة أخرى فى حياة زوجها لتهدد حياتها الزوجية واستقرارها فتظهر الخلافات ويقرر الزوج الزواج من الأخرى فتطلب الطلاق وتعود لمصر وابنها هروبًا من الظروف الصعبة هناك والحرب فقد توقبت والدتها وتزوج والدها من أخرى كتب لها كل ما يملك وتفرق إخوتها واحدة تعيش فى فلسطين والأخرى فى الغردقة وأصبح لا يربطها بهما غير الاتصال التليفونى. تقول أم حمادة: قمت بأستئجار غرفة صغيرة بمنطقة الدويقة واستطعت بعد مشقة الحصول على الجنسية المصرية لابنى.. وبعدها فكرنا فيما تبقى لدينا من مال لإقامة مشروع صغير عبارة عن مطعم أكثر من مرة ولم ينجح فلم يكن أمام ابنى إلا اللجوء للعمل بالمهنة التى يجيدها «نقاش» ووقفت معه يدًا بيد فهو كل ما لى فى الدنيا أصبحت له الأم والأب وأصبح لى الأخ والصديق.. وكان حلمى الوحيد الذى أسعى لتحقيقه من وقت عودتى لمصر هو الحصول على شقة نستقر ويتزوج ابنى فيها الذى تعدى عمره الأربعين عاما ليعوض هذا الحلم سنين الغربة والشقراء. وعن كيفية حصولها على العمل بدهانات الكوبرى برمسيس من المحافظة تقول: جاء مصادفة عندما تقابل ابنى مع المهندس المسئول عن ذلك وعرف أنه نقاش واتفق معى على دهان البكيات الخاصة بالباعة الجائلين التى سوف يتم نقلهم إليها وتسليمها خلال يومين فكان ملتزم معه وتم تسليمه الشغل فى موعده فأخذ تليفونه فعاود الاتصال به واتفق على استكمال عمله بدهان الكوبرى برمسيس والمهلة شهر مضى منها أسبوعان وقد اقتربنا على تسليمه. ■ وعن سبب عملها بهذه المهنة رغم صعوبتها عليها كسيدة وتبلغ من العمر ستين عامًا؟ قالت: العمل لا يحدد من يقوم به ولكن الشخص أيًا كان رجلاً أو امرأة هو الذى يحدد عمله بقدر استطاعته وامكاناته على القيام به فلا يوجد هناك عمل رجالى وعمل نسائى فى ظل ما وصلت إلى وحققته المرأة فى ظل الظروف الصعبة التى نمر بها فى حياتنا والتى جعلت عمل المرأة شيئًا مهمًا وضروريًا فى كل بيت عونًا للأسرة أم وأب أو زوج أو حتى ابنها. ■ ألا تجدين صعوبات فى العمل خاصة وأنى يعتمد على القوة البدنية وما رأى الشارع وانطباعه عندما يراك؟ - أنا تكيفت مع العمل وأتقنته فأتعامل معه كأى رجل وفى أصعب الحالات وأقف على السقالة وأعمل كما أعمل على السلم أما عن انطباع الناس عندما يشاهدونى ألاقى منهم كل إعجاب وتقدير وتشجيع لما أقوم به وقد شاهدته أنت بنفسك. وتضيف أم حمادة: لكن المشكلة الحقيقية التى تواجهنا فى عملنا ما نحتاج لصنيعية معنا لا نجد الصنيعى الملتزم والجاد الذى يحب عمله ويؤديه بضمير، الواحد منهم عاوز يشتغل يومين وأول ما تيجى الفلوس فى إيده يقعد عليها عشرة أيام فى البيت إلا أن تصرف وتقطع كلامها بنفس عميق لتعود قائلة: أنا حزينة على الشباب اللى بيضيع وقته وعمره فى اللعب وعندما يفيق الحالة تكون حاجات كثيرة ضاعت منه.. فهم يهربون من العمل فى بداية حياتهم وعندما يفكرون فى البحث عنه لا يجدونه ■ ونعاود سؤالها: هل يكفى عائد هذا العمل المادى لتحقيق ما ترجينه؟ - فى ظل الظروف التى تمر بها البلاد صعب، فنحن عندما ننتهى من هذا العمل نأخذ وقتًا فى البحث للحصول على غيره وفى هذا الوقت نستفيد ما حصلنا عليه من العمل فلا نستطيع توفير مما نغير به من ظروفنا لهذا نحن نأمل أن نقابل المحافظ عند مرورة لرؤية العمل لنعرض عليه مشكلتنا وحلمنا فى شقة تكون هى النواة لحياة جديدة مستقر يتزوج بها ابنى. وقبل أن ننهى حوارنا معها سألناها: بعدما وجدت من مشقة ومعاناة فى الحياة فى مصر ألا تفكرى فى الرجوع للبنان أو الهجرة لأى بلد؟ فأجابت دون تفكير أو تردد: أبدًا فما أشقانى هو الخروج منها فبلدى مصر هى الأمن والأمان وهى الآن تحتاج منها أن نقف يدًا واحدة بجوارها لتنهض مرة أخرى فتحيا مصر ويحيا شعبها.