كنت أتندر دوماً علي صيغة أي طلب يقدمه مواطن مصري لمصلحة حكومية أو رئيس عمل أو صول بوليس،كانت الكلمة تقول بكل تذلل: مقدمه لسيادتكم فلان الفلاني.. أرجو السماح بكذا.. أو أو تشملوني بعطفكم أو «أتشرف بأن ألتمس كذا» أو «أتوسل النظر بعين الرحمة لطلبي هذا» إلي آخره ثم ينهي الاستعطاف بمقولة أو دعاء كلي أمل في كذا .. أو «أحلم بأن يتسع صدركم» أو «جزاكم الله كل خير» أو «جعلكم المولي ذخراً للوطن وعونا للمحرومين» إلي أوله. يجري ذلك مع أن طلب المواطن حق.. وعدل.. ولا يفهم المرء.. ما الداعي لهذا التذلل لإنسان يطالب بحقه المشروع.. لماذا جملة أرفع طلبي هذا راجياً أن يتسع صدركم لبحث شكواي.. الخ.. لماذا الدعاء بسعة صدر المسئول الذي يقبض مرتبه من المواطن؟ ويتعاطي بدلاته من الغلابة؟ ثم .. لماذا يقبل نفس المسئول إذلال ذلك المواطن؟ بعدها ينتظر المكافأة والترقية والعلاوة وغيرها؟ وكأن السلطة تكافئه علي ارتداء قناع الفرعون.. واهب الحياة مثلاً!! ربما كان ذلك إرثاً.. منذ أيام «الالهة» مينا أو خوفو أو رمسيس استمر أطول مما يجب حتي بات الكثيرون يرددون: المصري معتاد علي الظلم، يقبل الهوان، ويساعد علي تأليه الحاكم، ويتندر الأجنبي، عندما يراقب العلاقة بين مواطن بسيط وأمين شرطة مثلاً.. المواطن يسمي الأمين: باشا والأمين يطالب الأخ بسداد الضريبة، وبما يحول دولة في حجم مصر إلي دولة أمين الشرطة، ناهيك عن الباشا الأكبر والأكبر وهلم ارهاباً. كثيراً ما كنت اتعجب لقول مواطن صاحب حق، في نهاية مظلمته مقدمه لمسئول: «جعلكم الله حماية للمظلومين»!! والأكثر مدعاة للعجب أن المسئول ذاته يمثل الظلم بعينه بكل ما يقسو ويلهف. ثم لا يتحقق دعاء المواطن بالطبع.. ويكون مصير الشكوي ذات طابع التمغة صندوق القمامة ليس إلا. هي إذن علاقة غير متكافئة، غير عادلة، غير منطقية بين صاحب حق وصاحب السلطة، بين مطحون وخلاط، بين بريء وخارج علي القانون والعرف. يقول بعض علماء الاجتماع إن ذلك يسود في الجامعات أو الشعوب التي تعيش علي ضفاف الأنهار (نهر النيل مثلاً) وتعمل في زراعة الأرض.. حيث تستكين لدور الطبيعة، في توفير مياه الري، ثم في نمو بذور التربة وحتي الحصاد.. وحيث قد تعيش علي الأمطار.. ممارسة دوراً سلبياًَ دوماً. لكن غيرهم يقول غير ذلك مستشهداً بحالات من نهضة في البرازيل أو بنمو في الأرجنتين أو تطور في الهند.. وكلها نهرية الظروف.. ثم يقول البعض: هي عوامل وراثية.. جينات خوف من حاكم أو رعب من صاحب سلطة أو سلاح. هذا وتجد المسئول المصري يهتم بديكور مكتب، أو أناقة سكرتارية، مع السيارة والسجادة كما تجد من الصعب مقابلته حيث تسمع «البيه في اجتماع» أو «معاك ميعاد مع سيادته» أو «قدم طلبك لمدير مكتبه».. حيث لكل مدير في مصر مدير مساعد.. وهلم تعقيداً أو بيروقراطية!! هذا ويتحول سكرتير المحافظ بل والمدير أو حتي رئيس القسم، يتحول إلي ديكتاتور صغير، يتعملق أمام المواطنين، ممثلاً طاووسا هزيلا يدعو للسخرية لكن مفتاح الدخول يظل بيده دائما حتي مع قوله أحيانا طلبك لم يعرض علي السيد المدير، أو لم يبت فيه بعد، وبطريقة: شوف مصلحتك يا سيد، «سمعنا سلامو عليكو يا خويا»، وغيرها من إكليشيهات الهوان المصري الأصيل!! ولنتصور مواطنا مريضا يتقدم طالبا العلاج السريع، أو ولي أمر يرجو الحاق ابنه بمدرسة قريبة، أو موظفا يتمني صرف فرق معاش، أو المعاش نفسه، إلي آخره يلاقي كل هذا العنت من سكرتير متأنق أو مسئول متجبر. وتصل الأمور إلي ما يسمي بالقطاع الخاص أو المهن الحرة الطبيب يعاملك، باستعلاء، مع ذلك تدفع مقدم فاتورة يحددها بمزاجه، هذا عادي، وذلك مستعجل، والثالث فوري..، وينطبق الوضع ذاته علي المحامي والمدرس الخصوصي ومقاول العمارة.. وحتي نصل إلي بائع الخضار.. وعامل الفرن البلدي، مرورا بسائق التاكسي، وموظف السجل المدني. ويحار المرء مرة أخري في تفسير هكذا ظاهرة ويتساءل: هل العيب في الناس أم الخطأ من المسئول.. هل المواطن يستحق قسوة الحاكم؟ لماذا يقبل المرء الظلم أساسا؟ ولماذا يتمادي المسئول في الاستعلاء علي الغير؟ ولماذا لا تستقيم الأمور في عالمنا العربي مثلا.. ويتم تطبيع العلاقة بين مقدم الطلب وعناية السيد المدير؟ هل هي ثقافة سوف تدوم طويلا؟ حتي في عصر الانترنت والموبايل؟. ومصر مجرد نموذج.. آن له أن يختفي، كي يحل محله عقد عادل بين الطرفين، مثلما هو الحال في دول متقدمة فعلا وقولا. وإلي أن يحين ذلك التمس من عنايتك نسيان ما قرأته الآن.. إذا كنت قد وصلت إلي هنا، جعلك الله ذخرا وعونا للمحرومين، كي اكتب مثل بعضهم.. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.