تنهمر دموعه دون توقف، حين يغلب عليه الشعور بالحسرة، وحين يشتد عليه الألم مما اقترفه من سوء، الندم يقتل هذا الشقى، فقد قتل والده من أجل السرقة ليشبع إدمانه، وتعض هذه الأم على أصابعها بعدما خنقت صغارها خشية الفقر، وهابيل أهال التراب على رأسه وجسد أخيه مسجى أمامه، ومن قبله ندم أبواه آدم وحواء على إنصاتهم لخداع إبليس، غير أن المولى تاب عليهما. وللأسف يقع الندم بعد فوات الأوان، وبعد أن أضاع صاحبه عدة فرص، وتكررت دقات جرس الإنذار فى أذنيه، لكن النادم أصر أن يضع وقرا فى أذنيه، وأن يضع علي عينيه الغشاوة، وكان من الضرورة إرشاده بأن يأتى أفضل من ألا يأتى، بمعنى أن النادم خير له ألا يُسكت ضميره ويحول بين مواصلة جرائمه. وفى حال استمرار النادم فى ارتكاب أفعاله الإجرامية فلا فارق بينه وبين أصحاب السوابق عتيدى الإجرام، والندم هنا بمثابة شعور زائف، يختلف عن ندم التوبة من الذنب، وبالبحث عن سبب حسرة هذا النادم الزائف، نكتشف أن شعوره بوخز الضمير مجرد إحساس مؤقت سرعان ما يتلاشى، وفى حقيقة الأمر أنه شخص يرفض التصالح مع النفس، ويغيب عنه الإيمان بالرضا. ويسمى هذا الندم بالندم السلبى، ومن مشتقاته حزن النادم على ماض أفسده بذنوبه، وفى ذات الوقت يتغاضى عن حاضر يعيشه، ولا ينظر إلى مستقبل قادم يستطيع أن يصوب فيه أخطاءه، ويغير فيه مسار حياته، وحبس هذا النادم نفسه فى سجن شيده بيديه، وأخذ يجلد ذاته، ويعذبها بالاستغراق فى ندمه على ماض لن يعود، والبكاء على أطلال، وكأنه يدور فى دائرة مغلقة، وحتى لا نصب اللعنات على الندم فى المطلق هناك ندم إيجابى عندما يستيقظ النادم من غفوته بسرعة، ويصحح سلوكه. وقنوط النادم التائب من ذنبه والإحساس من عدم قبول توبته، هو شخص نحسبه آثم قلبه، لا يثق فى عفو الله ورحمته، والإغراق فى اليأس يحول صاحب الذنب إلى حال العاصى الظالم لنفسه، وينجرف إلى فعل السوء بلا حدود، كما يصور له خياله المريض، وإذا بادر بالعودة إلي الله وسلم نفسه بقضائه وقدره، ينال قسطًا كبيرًا من الاطمئنان والرضا، فقد وعد الخالق فى قوله تعالى: "مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى". وأشار لنا ابن القيم إلي معادلة إيجابية عن الشعور بالندم، ويقول: الندم الصادق هو الذى يدفع صاحبه إلى الإقلاع عن الذنب والعزم على ألا يعود إليه، ويسرد فى تفسير وجهة نظره بقوله: إذا أراد الله بعبد خيرًا يفتح له أبواب التوبة والندم والافتقار إلى الله بصدق، والملاحظة الجديرة بالإشارة فى كلام ابن القيم هى أن المشاعر الصادقة لا تجعل المذنب يغالى فى ندمه حتى يهلكه، ونجح ابن القيم فى تحجيم سرعة انحدار كرة الثلج، ومنح بذلك للنادم طوقا للنجاة.