يعيب الكثيرون على بعض الأكاديميين أنهم يعيشون فى أبراج عاجية ويحبسون أنفسهم فى نظرياتهم وأبحاثهم، حتى وهم يخوضون تجربة الكتابة الإبداعية ..لكن الروائية وعالمة الاجتماع اللغوى د. ريم بسيونى من المبدعين القلائل الذين أثبتوا خطأ تلك النظرية، فقد عاشت 17 سنة كاملة خارج مصر، قامت خلالها بالتدريس فى أعرق الجامعات البريطانية والأمريكية ، ثم تركت كل شىء وراءها لتعود إلى مصر بعد 25 يناير، لتشارك الناس حلمهم بالتغيير ، وتعتبر رواياتها الأربعة، ومن بينها د. هناء الفائزة بجائزة ساويرس فى الأدب، و«بائع الفستق» الفائزة بجائزة أفضل كتاب مترجم فى أمريكا ، فضلاً عن كتابها الوحيد عن الهوية المصرية، خير دليل على أنها معجونة بحب هذا الوطن ، وأنها تتعامل مع همومه وأحلامه بمشرط جراح ماهر يعرف جيداً طبيعة الجرح وطريقة الشفاء، وهو ما ستكتشفه عزيزى القارئ بنفسك حين تقرأ هذا الحوار.? ما قراءتك للمشهد الانتخابى الأخير.. وبماذا تفسرين الانصراف عن التصويت فى الانتخابات البرلمانية؟ ?? رغم كل الانتقادات والإحباط الذى يحاول البعض أن يشيعه ويقلل به من حجم الإنجاز الذى حققه المصريون فى محاولتهم للتخلص من الفساد والاستبداد، إلا أننى متفائلة بشكل عام، وأؤمن أن المصريين يستحقون الأفضل، وأنهم ماضون فى الطريق السليم رغم كل العقبات. أما عن عدم الإقبال للتصويت على الانتخابات البرلمانية، فهو لا يعنى من وجهة نظرى العودة إلى الأناملية والانسحاب من العمل العام والتوقف عن الاهتمام بالسياسة كما كان يحدث من قبل، ولكن من الطبيعى أن تاخذ الأمور وقتها، وخصوصًا بعد الثورات، فالأوضاع تتغير بين يوم وليلة، لكنها تحتاج إلى وقت وعمل ومجهود كبير من السلطة والشعب معًا. حال الإعلام ? باعتبارك متخصصة فى علم الاجتماع اللغوى، فما هو رأيك فى الخطاب الإعلامى السائد فى مصر الآن؟ ?? يؤسفنى أن أقول إن الخطاب الإعلامى فى مصر يعانى منذ فترة طويلة من السطحية والانشغال بالقضايا الهامشية عن قضايا المجتمع الحقيقية، وهو خطاب فج وردئ للغاية، ويعتمد على التوجيه المباشر ويتصف بدرجة عالية من السذاجة، فالمذيع يظهر على الشاشة ليلقى على المشاهد دروساً بدلاً من أن يطرح عليه الأسئلة ويتركه ليفكر فى الإجابات، ولابد من أن يتغير هذا التوجه وأن يصبح الإعلام أكثر حيادية وموضوعية حتى لا تنهار درجة مصداقيته لدى المشاهد والمستمع والقارئ. ? وهل يعنى ذلك أن مستوى الإعلام قد تراجع بعد 25 يناير..وما هى الأسباب؟ ?? نعم مع الأسف.. فالإعلام المصرى كان أفضل كثيرًا خلال فترة الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضى، ولم يكن المذيعون ومقدمو البرامج قد وصلوا إلى هذه المرحلة من السوء وعدم المهنية، فلا يمكن أن تشاهد مذيعًا فى قناة ال «بى بى سى» مثلًا وهو يحاور مجرماً أو رجلا خارجا عن القانون أو امرأة متهمة بقضية ما ثم يتدخل لينتقده أو أحيانًا يشتمه أو يطرده من الاستوديو أو يفضح تلك المرأة على الشاشة، كما يحدث فى إعلامنا هذه الأيام، والمفروض ألا يحاكم الإعلامى أحداً ويكتفى بطرح الأسئلة ويترك لمن يحاوره الإجابة ويترك الحكم للمشاهد. ? وما هو الفارق بين إعلامنا والإعلام الغربى، خاصة وأنك عشت هناك سنوات طويلة وتستطيعين المقارنة بدقة؟ ?? الإعلام البريطانى أفضل كثيرًا وأكثر رصانة من الإعلام الأمريكى، وإن كانت هناك قنوات مثل «فوكس نيوز» مثلًا لا تقل فجاجة ودعائية عن بعض الفضائيات العربية، فهذه الظاهرة مع الأسف موجودة فى معظم دول العالم ولكن بدرجات مختلفة، ومن الصعب أن تتعرف على طبيعة شعب من إعلامه، لأنهم عادة يعرضون لنا صوراً منتقاة، حتى نراهم بالطريقة التى يريدوننا أن نراهم بها. ? ولماذا فشلنا فى الوصول إلى الغرب وتوصيل حقيقة ما يحدث فى بلدنا بعد 30 يونيو لهم؟ ?? الإعلام المصرى لا يصل إلينا نحن كمصريين، فكيف يمكن أن يصل للعالم الخارجى ويؤثر فيه، والحقيقة فإن المفروض أن يتعلم الإعلاميون من درس الانتخابات الأخيرة، وليس السياسيون فقط، ويغيرون لغة خطابهم التحريضية الساذجة، ويتوقفوا عن تصنيف الناس كطيبين وأشرار مثل أفلام الكارتون وقصص الأطفال، لأن دور الإعلام الحقيقى هو أن يساعد الناس على الفهم والتفكير، وهو ما لا يحدث مع الأسف الشديد. نحن والغرب ? وكيف يمكن أن نغير الصورة السلبية المغلوطة عنا بالخارج؟ ?? ليس المطلوب من الإعلام أن يغير صورتنا فى الخارج، فالمفروض ألا يشغلنا ذلك من الأساس، والأهم أن نركز على قضايانا الداخلية ونسعى لحل مشاكل البطالة وتدنى مستوى الصحة والتعليم، ونترك من يشاء يفكر بالطريقة التى يريدها، طالما أن النظام السياسى فى مصر شرعى ومعترف به دوليًا، ونتخلى قليلًا عن الفكرة السلبية التى تشغل المصريين وتؤرقهم دائماً وهى: «الناس هتقول علينا إيه».. المهم أن نسير فى الطريق السليم ونحل مشاكلنا ونترك الآخرين يقولون ما يريدون لأنهم فى كل الأحوال لن يرضوا عنا ولن يتركونا فى حالنا، ولا يجب أن يشغلنا على الإطلاق تغيير الصور النمطية عنا فى الغرب، لأنهم لو كانوا لا يعلمون الحقيقة، فهذا قصور وتقصير منهم، وينبغى أن ننشغل بأنفسنا ونبحث عن الطريقة التى ننجح ونتقدم بها، خاصة وأن تلك الصورة السلبية من الصعب أن تتغير فى ظل الحروب والنزاعات التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط وتضع غلافة سميكة على أعين العالم كله وهو ينظر إلى شعوبنا ومنطقتنا. المرأة تكسب ? وما تحليلك لتفوق المرأة المصرية على الرجل فى الاستحقاقات السياسية منذ ثورة 30 يونيو وحتى الانتخابات البرلمانية الأخيرة؟ ?? المرأة المصرية ساهمت بدور كبير فى ثورة 25 يناير، وكانت من البداية ضد الفساد، كما ساهمت أيضًا فى 30 يونيو، دفاعًا عن هويتها وحريتها ومحاولات تهميشها باسم التفسيرات الخاطئة والرؤية القاصرة للدين، وهى موجودة وحاضرة بقوة فى كل الأحداث السياسية التى تمر بها بلدنا، ولها أدوار ملموسة وفاعلة سواء فى التغيير أو الحفاظ على المكتسبات التى حققتها بكفاحها عبر السنين. هزيمة النور ? وما رأيك فى هزيمة حزب النور السلفى فى المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب.. خاصة وأنك توقعت هزيمة المنتمين للتيارات الدينية فى روايتك «بائع الفستق»؟ ?? أرى أن حصول حزب النور على أصوات أقل بكثير مما كان يتوقع المروجون له، وخصوصا فى معقل وجوده ومؤيديه بمدينة الإسكندرية، هو أكبر دليل على أن الشعب المصرى، شعب ذكى للغاية ومن الصعب على أى جماعة أو حزب أن يخدعه بشعارات يرفعها، حتى ولو كانت شعارات دينية. فالدين بالأساس هو المعاملة، وهو ما لا يفهمه بعض من ينسبون أنفسهم إلى الإسلام ويتحدثون باسمه، وسواء كان الشخص المتدين مسلمًا أو مسيحيًا ، فإن علاقته بالله شىء يخصه وحده، وما يهم الناس هو انعكاس هذا التدين على طريقته فى التعامل معهم، وهذا المفهوم كما قلت لم يكن واضحاً تمامًا فى ذهن «أشرف» فى رواية «بائع الفستق»، فى نظرته لعلاقة بطلة الرواية «وفاء بالدين»، فهو يراها متدينة بالمفهوم الغربى، أى لمجرد إيمانها بوجود الله، بغض النظر عما تمارسه من طقوس أو عبادات دينية. ? وما الجديد الذى تقدمينه عن علاقة المرأة بالدين من خلال الرواية؟ ?? لقد لاحظت أن كثيرًا من الروايات العربية تربط بين تحرر المرأة والتخلص مما ترى أنه أغلال الدين، وقد حاولت تغيير تلك الصورة النمطية من خلال شخصية وفاء فى «بائع الفستق»، ومن خلال تطور مفهومها للدين وعلاقتها بالله، فقد كانت فى البداية علاقة خوف من الحساب والعقاب والنار، ثم وصلت فى النهاية إلى علاقة حب واقتناع، ساعدتها فى التحرر من المفاهيم الخاطئة التى كانت تخنقها وتسيطر عليها، ونجحت تماماً فى تغيير شخصيتها وسلوكها إلى الأفضل. هوية مصر ? حدثينا عن كتابك حول الهوية المصرية وعلاقتها باللغة، الصادر عن دار أدنبرة بانجلترا،? ?ودار أكسفوردبأمريكا،?وما الذى دفعك لتأليف هذا الكتاب؟ ? ?? تناولت فى هذا الكتاب العلاقة بين الهوية المصرية واللغة فى المائة عام الماضية،? من ?بداية القرن العشرين وحتى ثورة? ?30? ?يونيو ? ?2013،? ?وقد تصديت فى الكتاب لما قاله اللورد كرومر أثناء فترة الاحتلال البريطانى،? ?عندما وصف الشعب المصرى بالفقر والجهل،? وأنه ليس لديه هوية،?وقلت إن كرومر ?لم? ?ستوعب أن المصريين من الشعوب القليلة التى تفكر على الدوام فى هويتها،? ?فقد? ?غنى ?سيد درويش،? «?أنا المصرى كريم العنصرين?». وقد اعتمدت من بين مصادرى فى الكتاب على الأغانى? و?الروايات التى تتعرض للشخصية المصرية،? ?وكذلك الأفلام مثل? «?عسل أسود?»?،? «?الإرهاب والكباب?»?،? «?حسن ومرقص?»?،? ?وكذلك الكتب الدراسية بدءا من المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية?.? شهادة النمنم ? أشاد وزير الثقافة الحالى والكاتب والناقد حلمى النمنم بأسلوبك المختلف عن بقية أعمال فى روايتك «أشياء رائعة».. فهل قصدت هذا الاختلاف؟ ?? لم يكن مقال الأستاذ حلمى النمنم، وزير الثقافة الحالى عن روايتى «أشياء رائعة»، هو الأول عن أعمالى، فقد كتب أيضاً عن روايتى «الحب على الطريقة العربية»، وأشاد بالعملين، وهو ما أسعدنى كثيرًا لأنه مثقف كبير وكاتب مستنير، وأنا سعيدة فى الحقيقة، لتعيينه وزيرًا للثقافة، وأعتقد أنه سيقدم أشياء كثيرة من خلال موقعه لصالح الثقافة والمثقفين فى مصر. أما عن الأسلوب الذى كتبت به رواية «أشياء رائعة»، فقد كنت أقصده فعلًا ليتناسب مع فكرة الرواية نفسها، التى تتحدث عن هوس المصريين بفكرة الموت والبعث والدفن، وكان الفراعنة لديهم ما يعرف بكتاب الموتى ، وقد فكرت..ماذا يمكن أن يحدث لو بنى أحد المصريين مقبرة الآن وسجل عليها تاريخه كما كان يفعل أجداده القدماء، لكنه أسماه «كتاب الموت والحياة»، والرواية صدرت فى عام 2010، قبل ثورة 25 يناير بستة اشهر تقريبًا، وأعتقد أنها تنبأت بأنه سيحدث شىء فى مصر، وهو ما كتبه الأستاذ حلمى النمنم عنها، وقال إنها تنبأت بالثورة. بائع الفستق ? فازت روايتك «بائع الفستق» بجائزة أحسن عمل مترجم فى الولاياتالمتحدة..فماذا يمثل لك هذا الفوز ؟ ?? طبعاً أشعر بالسعادة والفخر لفوزى بهذه الجائزة فى أمريكا، وما يهمنى حقا هو أن يصل أدبنا العربى إلى الغرب وأن يحوز احترامه و تقديره، وأشعر أن فوزى بهذه الجائزة يساعد ولو بقدر قليل فى الوصول إلى هذا الهدف، لكن ليست الجوائز هى ما يهمنى، فما يعنينى هو وصول أعمالى إلى عقول الناس وانفعالهم بها، سواء فى الوطن العربى أو خارجه، فعندما تصلنى رسالة من قارئ يشيد فيها بعملى أشعر حينها أننى فزت بأغلى جائزة.