كلما حل شهر يناير وتحديداً الخامس والعشرون منه إلا وذكرى الارتباط بأحد الأحداث المضيئة فى تاريخنا الحديث تطل علينا حيث مواجهة المستعمر الإنجليزى فى الإسماعيلية وعدم الرضوخ لمطالبه حتى ولو كان الثمن أرواحاً زكية فداءً للوطن، الأمر الذى يفسر جعله عيداً للشرطة المصرية التى ضربت مثالاً فى التعامل مع أعداء الوطن بغض النظر عن هويتهم. ولقد ظلت مصر تحتفى مع الشرطة سنوياً بهذه المناسبة الجليلة حتى بعدما انسلخ دور الشرطة من مواجهة أعداء الوطن إلى مواجهة أعداء النظام من معارضيه، مما أفقدها الكثير من المودة الشعبية حتى ولو تم تغيير شعارها كل يوم من (الشرطة فى خدمة الشعب) إلى (الشرطة والشعب فى خدمة الوطن). لا سيما مع تنامى صخب الأصوات التى لم تلق الداخلية لها بالاً فى الحديث عن تقلص الاهتمام بالأمن الاجتماعى لحساب الأمن السياسى.بيد أن الخامس والعشرين من يناير فى ذاكرتنا المعاصرة منذ أربع سنوات خلت قد غطى على مثيله فى ذاكرة تاريخنا الحديث، بما حواه من زخم الأحداث وتداعياتها وبما فرضه من خطوط تماس بين الشرطة والشعب والجيش سرعان ما تحولت إلى مساحات للتلاقى والتوحد عندما دعى داعى الوطن إليه. وما من شك أن أحد الأسباب الرئيسية لتوارى أحداث (يناير الشرطة) أما أحداث (يناير الشعب) فى خلفية المشهد ليس فقط المطالب الثورية الرئيسية التى أصبحت شعاراً للحدث ولكن تصرف الشرطة ذاتها آنذاك التى ترك ربابنتها مهمتهم الأساسية فى مناورات بدأت وما تزال تتكشف رويداً رويداً لاستعادة عرش الهيمنة الداخلية بالضغط السلبى إن جاز التعبير. ولم يدرك منظرو المرحلة أن مرارات بعض التصرفات قد طفت على سطح الأحداث ونالت من هيبة شرطتنا بذات القدر فى عدم إدراكهم لمعنى توارى عبق ذكرى الحدث الخاص بشرطة الإسماعيلية عن المشهد برمته. والواقع فلسنا هنا بصدد استدعاء الذكريات جلداً للذات أو إعلاء قيمة حدث على حساب آخر، إذ كل ما يعنينا هو توازن التناول، حفاظاً على ذاكرة الأمة وترسيخاً لقيم الوطنية التى تثيرها ذكريات كلا (الينايرين) فى عجالة تاريخية فرضت نفسها على حديث الساعة. فالمعروف أن التاريخ لا يتدخل بأحكامه إلا بعد فترة تبعد بالمؤرخ عن مؤثرات الحدث بأشخاصه وآلياته وهو ما ينسحب على (يناير الشرطة) بالإسماعيلية وما يزال قيد التناول فى ينايرنا المعاصر. وفى كل الأحوال تتضارب الذكريات لا سيما بعدما ارتبط الحدث الأخير بذكريات الإرهاب والترويع التى أعادت العلاقة السوية بين الشعب والشرطة إلى مجراها الطبيعى فى تناغم وطنى أحسبه بمثابة ضمادات الجروح لكليهما، وقد أضاف وجود الجيش للعلاقة زخماً من نوع خاص ليحقق بصدق تناغماً بين أطراف المعادلة الوطنية التى صدح الشعب بشعارها الجديد (الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة) والتى آمل أن تختزل فى قابل الأيام فى معناها الحقيقى (كل المصريين إيد واحدة). فمما لا شك فيه أن ما نراه منذ (يناير الشعب) ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن ثمة أخطاء أصبحنا قادرين على تجاوزها قد باتت بمثابة الدليل الكاشف لعورات ما أنزل الله بها من سلطان، إذ بقدر تعاطفنا بل ورفضنا لاستهداف شرطتنا ونزيف الدم الذى تدفعه مع كل طلعة صبح على أرض المحروسة لا سيما فى مناسبات تداعيات حدث الثورة مروراً برابعة والنهضة وحتى 30 يونيو، إلا أننا نأمل أن تزداد نسبة الاحترافية الشرطية فى مواجهة المخاطر ليس حقناً للدماء فحسب بل وتأكيداً لا يخالجه الشك للقدرات الخاصة على تأميننا فى غير الأحوال التقليدية. وفى المقابل على هذا الشعب عبء الوعى بالمخاطر الذى يمثل خط الدفاع الأول فيها، إذ ما معنى لاستمرار الزحام فى نقاط بعينها باتت هدفاً سهلاً لكل عمل إرهابى وكأننا نقدم أنفسنا غنيمة يسهل النيل منها على بساط الانتقام الإرهابى الخسيس. وما معنى ألا يحدث تناغم بين مؤسسات الدولة التنفيذية لتوزيع ساعات العمل على مراحل زمنية تقلل من كوارث ساعة الذروة حتى باتت شوارعنا فى ذروة دائمة لا نملك منها فكاكاً. وما معنى تراخى ممثلى شركات الأمن فى معظم المصالح فى القيام بدورهم وإشعار القاصى والدانى به حتى تحول وجودهم لحالة من حالات استكمال الوجاهة المؤسسية بلا استشعار حقيقى لوجودهم. وغيرها كثير من مسئوليات مزدوجة لا تحتاج منا سوى الإحساس بقدرتنا على المشاركة بالمواجهة، والتى تجعلنى أيضاً على المستوى الاحترافى أنادى بعودة مفهوم الدفاع المدنى فى صيغة حديثة تكفل التعامل مع مسلسل الحرائق والتفجيرات. ويا حبذا لو أسند الأمر لمجموعات من الشباب لا سيما الذين يؤدون التربية العسكرية بالجامعات وغيرها، ليصبح مفهوم التطوع عملياً وبأبلغ رد على من لا يزالون يضعون بعض التوجهات الشبابية فى قفص الاتهام دون مبرر. إن ذكريات يناير على كثرتها بل وتعارضها تحتاج منا إلى إعادة صياغة بعيداً عن تضاربها الذى يعمق من الخلافات ويكرس استمرارها بما يضعف من بنية النسيج الوطنى، وذلك بهدف تناغمها فى سياق واحد يجعل من الذكرى القادمة احتفالية بحق تتقدم فيها الأهداف القومية ذاكرة المشهد أو تعلو عليها لتظل تاجاً على رأس الوطن، تصبح فيه ذكرى الشهيد درة هذا التاج وذروة سنامه ليتسق خلوده السماوى الموعود مع الخلود الأرضى المستحق. لتحيا مصر بذكريات يناير لا تعارضاً وتضارباً وتعويقاً بل تاريخاً وإنجازاً واستحقاقاً.