من الإنجازات الفكرية التى وفقنى الله إليها فى ميدان الدراسة والتحقيق لتراثنا الحديث كتاب (إسلاميات السنهورى باشا) الذى صدر فى مجلدين، جمعت فيهما ما تناثر من كتابات فقيه الشريعة الإسلامية وواضع القانون المدنى وشارحه، والقاضى العادل الدكتور عبدالرزاق السنهورى باشا(1313-1391ه 1895-1971م) . وإذا كان كل رجال القانون المدنى فى الشرق يفتخرون بتتلمذهم على يد السنهورى باشا.. فإن الكثيرين فى بلادنا وخاصة من الإسلاميين يجهلون «الوجه الإسلامى» للمشروع الفكرى لهذا الفقيه العظيم.. الذى أطلق عليه أساتذته الفرنسيون لقب «الإمام الخامس» منذ كان يدرس الدكتوراه بباريس فى النصف الثانى من عشرينيات القرن العشرين!.. لقد كان حلم حياة السنهورى: بعث الشريعة لتتخطى أعناق القرون، وتجديد الفقه الإسلامى، وتقنينه، لتكون هذه الشريعة وفقه معاملاتها المصدر للقانون فى بلاد الشرق الإسلامى وأيضاً لنقدم هذا الفقه الإسلامى إلى العالم، فى منظومة قانونية متميزة ومستقلة،كى يستفيد العقل القانونى منها. ولقد أكد السنهورى فى إسلامياته على العديد من المبادئ والحقائق التى تحتاج إلى التأمل والاستلهام. أكد على «أن أحكام الشريعة الإسلامية فى مسائل الدولة تتطور مع الزمان والمكان،فهى تابعة للتطور الاجتماعى الذى يهدينا إليه العلم المبنى على العقل،فهى تابعة بالضرورة لما يكشفه العلم الاجتماعى من قوانين التطور». ودعا السنهورى إلى تقسيم فقه المعاملات الإسلامية إلى: قانون خاص، وقانون عام فالقانون الخاص يشمل القواعد التى تضبط علاقات الأفراد بعضها بالبعض الآخر، فأبواب المعاملات،والأحوال الشخصية تدخل فى القانون الخاص،والقانون العام يشمل القواعد التى تسرى على السلطات العامة، وعلاقة هذه السلطات بالأفراد.. ومن فروع القانون الخاص: القانون المدنى، وقانون المرافعات،والقانون التجارى.. ومن فروع القانون العام: القانون الدستورى،والإدارى،والجنائى.. والأصول التى نبنى عليها قانونا دوليا عاما، وآخر خاصاً. وأكد السنهورى باشا على أن الأمة فى الإسلام هى مصدر السلطات. فالأمة هى صاحبة السلطان، وهى خليفة الله فى أرضه، وتستعمل سلطاتها بواسطة وكلاء عنها.. فالسلطة التشريعية فى الدولة الإسلامية هى بعد الله فى الأمة نفسها، لافى فرد من الأفراد ولا فى طبقة من الطبقات.. وسلط الضوء على سلطة إجماع المجتهدين، الذين ينوبون عن الأمة، والذين يرشحهم العلم للقيام بالتشريع فى حدود الكتاب والسنة..فحكومة المسلمين حكومة علماء. أما الخليفة رأس الحكومة الإسلامية فهو عند السنهورى «لايملك من سلطة التشريع شيئا، ولايشترى فيها باعتبار أنه خليفة، بل يوصف بأنه مجتهد إذا كان مجتهدا شأنه فى ذلك شأن سائر المجتهدين». ولقد رد السنهورى على الذين يريدون لبلادنا أن تتطفل فى القانون على موائد أوروبا، وقال: «إن بلادنا مدنية أصيلة، وليست هى الدولة الطفيلية، التى ترقع لها ثوبا من فضلات الأقمشة التى يلقيها الخياطون»!.. فهل نستلهم هذا التراث؟.. أم نظل كالسفهاء الذين لا يعرفون قيمة مايملكون؟!