(نوستراداموس) فلكى فرنسى، عاش فى القرن السادس عشر، وعلى الرغم من هذا، فهو يعد أشهر فلكى عرفه التاريخ، وأكثرهم إثارة للجدل، حتى يومنا هذا ... ذلك لأن (نوستراداموس) وضع كتاباً مدهشاً، أطلق عليه اسم (قرون)، وفيه كتب مئويات من الرباعيات الشعرية، التى حملت فى معظمها تنبؤات أثارت العالم كله، طوال القرون الماضية؛ ففى رباعياته تنبأ بتوقيت ووسيلة مقتل الملك (هنرى الخامس)، مما أثار غضب الملكة (كاترين دى ميديتشى)، واضطره للفرار، ولم تكن هذه سوى بداية لتنبؤاته المدهشة، والتى تجاوزت حتى زمن وفاته، فقد تنبأ بمقتل (جون كينيدى)، الرئيس الأمريكى الأسبق، فى (دالاس)، ومقتل شقيقه (روبرت)، واندلاع الحرب العالمية الثانية، والأولى أيضاً، وحتى بحرب (العراق)، وربما كانت أشهر تنبؤاته هى تلك التى حدًَّد فيها، وبمنتهى الدقة، ضربة الحادى عشر من سبتمبر، وانهيار برجى التجارة العالميين، قبل الحدث بخمسة قرون كاملة، ولا تعود شهرة نبوءته الأخيرة هذه إلى التوقيت والأسلوب الذى حدًَّده فحسب، وإنما إلى أنه ذكر فى رباعياته عبارة « برجان عظيمان ينهاران»، فى زمن لم تكن الأبراج فيه معروفة، حتى أن البعض تصوًَّر أنه قد أخطأ اللفظ، وأنه كان يقصد «صخرتين عظيمتين تنهاران» ... وبغض النظر عن قبول أو رفض هذا، فقد كان للفلكى (نوستراداموس) دور كبير، فى الحرب العالمية الثانية، وعلى نحو بالغ الغرابة.... فذات ليلة، وبينما استغرق وزير البروباجاندا أو الدعاية بالمصطلح الحديث (جوزيف جوبلز) فى نوم عميق، انهمكت زوجته فى مطالعة الطبعة الألمانية من كتاب (قرون)، الذى وضعه (نوستراداموس) فى القرن السادس عشر، وأذهلها أن وجدت إحدى رباعياته تتحًَّدث فى وضوح عن (هسلر)، الذى سيشعل الحرب فى (أوروبا) فتسيل لها الدماء أنهاراً فى نهر (الراين) ... ومن شدة ذهولها وفزعها، أيقظت الزوجة (جوبلز)، وقرأت عليه الرباعية ... فى البداية شعر (جوبلز) بسخافة الأمر، الذى أيقظته زوجته من أجله، إلا أنه لم يلبث أن حمل عدوى الذهول والفزع بدوره، عندما طالع الرباعيات، ووجد أنها تصف (هتلر) بدقة، وإن حملت اسم (هسلر)، بدلاً من (هتلر) ... وفى الصباح التالى، كان (جوبلز) يقف بزيه العسكرى أمام (أدولف هتلر)، ويروى له الأمر، ثم يقترح حرباً دعائية من نوع جديد ... وعجيب .... فعبر مجموعة من الخبراء، تم استخلاص كل الرباعيات، التى تشير إلى انتصار (هتلر)، وقام (جوبلز) بطبعها فى كتاب خاص، حملت الطائرات الألمانية آلاف النسخ منه؛ لتلقيها على (انجلترا)، وباقى الدول، التى لم تصل إليها الجيوش النازية بعد ... ولقد فوجئ الحلفاء بهذا الأسلوب الجديد من الحرب النفسية، والذى لم يستخدمه أحد من قبل، فأسرعت المخابرات البريطانية تدرس كتاب (نوستراداموس)، بوساطة لجنة من الخبراء أيضاً، واستخلصت منه بدورها تلك الرباعيات، التى تتحدث عن هزيمة (هتلر) فى النهاية، وانتصار الحلفاء، وعملت المطابع البريطانية بأقصى طاقاتها؛ لتطبع آلاف النسخ من تلك الرباعيات، باللغة الألمانية، وحملتها الطائرات الانجليزية؛ لتلقيها على (ألمانيا) ... وغضب (هتلر) بشدة من الهجمة المرتدة البريطانية، وصب غضبه على (جوبلز)، الذى لم يقبل بالهزيمة، فاستقدم مجموعة من الخبراء، ليس لاستخلاص المزيد من الرباعيات هذه المرة، ولكن لتأليف رباعيات جديدة، لها نفس خصائص رباعيات (نوستراداموس)، ولكنها تشير إلى أن (هتلر) سيربح الحرب فى النهاية، وأرسل طائرات النازية لتلقيها على (انجلترا) ... وأدرك رجال المخابرات البريطانية اللعبة بسرعة، وقررًَّوا دخولها بالأسلوب نفسه، وسرعان ما ألقوا على (المانيا) عشرات الآلاف من نسخ كتاب جديد، زيًَّفوا فيه بدورهم رباعيات جديدة، تقول : إن الحلفاء سيربحون المعركة، وسيلقون القبض على (هتلر) حياً، ويعرضونه على الناس داخل قفص حديدى، مما أثار جنون (أدولف هتلر)، وجعله يأمر بإيقاف هذه الحرب الدعائية فوراً؛ كوسيلة لدفع البريطانيين إلى إيقافها من جانبهم ... ولكن الفكرة لم تفارق ذهنه قط، وربما لهذا أقدم على الانتحار، عندما خسر الحرب، خشية أن يفعل به الحلفاء ما قالوه، فى رباعيات (نوستراداموس) الزائفة، وإن كانت هناك شكوك عديدة، أثيرت مؤخراً، حول انتحار (هتلر)، خاصة وقد تم حرق جثته وجثة عشيقته (إيفا براون)، والتى أصرًَّ على أن يتزوًَّجها، فى ساعاته الأخيرة؛ إذ صدر كتاب يقول مؤلفه إن (هتلر) لم ينتحر فعلياً، وإنما تم تهريبه، بخطة وضعت مسبقاً، وأنه نجح فى الفرار إلى (أمريكا الجنوبية)، حيث قضى ما تبقى من حياته مختبئاً، فى مزرعة كبيرة هناك، ولكن مؤلف الكتاب لم يعط دليلاً واحداً على ما كتبه، مما جعل الأمر أشبه بقصة خيالية، تصلح لفيلم وهمى، ثم ظهر مؤلف آخر، يؤكّد أن الحلفاء قد ألقو القبض على (هتلر) حياً، وأنهم قد احتفظوا به سجيناً، وأعلنوا عن انتحاره، حتى لا يثير وجوده على قيد الحياة حماسة النازيين مرة أخرى، والمدهش أنه أكد أن (هتلر) ظل سجيناً، حتى مات فى السجن عام 1969م، ولكنه أيضاً لم يقدِّم دليلاً واحداً على قوله هذا، ولا عن التوقيت الذى ذكره بالتحديد، بل ولم يعط مبرراً أكثر قيمة، لسجن الزعيم النازى، دون الإعلان عن هذا ... وأياً كانت الحقيقة، فما حدث فى الحرب العالمية الثانية، أثبت، بما لا يدع سبيلاً للشك، أن الحرب النفسية هى واحدة من أقوى أسلحة الحروب، وأن جميع أجهزة المخابرات تتعامل معها بجدية بالغة، مهما بلغت غرابتها؛ نظراً لأن هدم الجبهة الداخلية، هو أحد اهم وأخطر أهداف أجهزة المخابرات، لتدمير ترابط الشعوب، وإشعال النيران فى المجتمعات، مما يضعف الجبهة الخارجية، التى تنشغل بصراعاتها فى الجبهة الداخلية ... ومن أخطر وسائل الحرب النفسية حرب الشائعات، والتى تستخدم منذ قديم الازل، إلا أنها، ومنذ الحرب العالمية الثانية، صارت أكثر تطوراً، إلى الحد الذى صنع منها علماً مستقلاً، وصنع من الشائعات فصائل وتقسيمات عديدة، لكل منها مغزاه وهدفه، ولهذا حديث آخر.