من عجائب الأقدار أن يسدل الستار على الحياة السياسية ل «سيلفيو برلسكونى» باستقالته من منصبه كرئيس للحكومة الايطالية بعد أقل من شهر من نهاية صديقه الراحل العقيد معمر القذافى والذى كان برلسكونى - حفاظا على المصالح الإيطالية فى ليبيا - قد أدار له ظهره عندما أدرك أن الأمور قد خرجت عن سيطرته وبات النصر وشيكا للثوار، وإذا كان القذافى قد انتهى بفعل ثورات الربيع العربى التى لم ولن يستطع الوقوف فى وجهها أكثر حكام المنطقة دكتاتورية وقمعية، فإن برلسكونى قد عصفت به أزمة ديون اليورو التى راح ضحيتها من قبله رئيس الوزراء اليونانى جورج باباندريو ومن المتوقع أن تقتلع الأزمة فى طريقها المزيد من القادة الأوروبيين. برلسكونى (75 عاما) - والذى يلقبه الإيطاليون بالفارس - ظل 17 عاما مهيمنا على الحياة السياسية الايطالية استطاع خلالها أن يشغل منصب رئاسة الوزراء ثلاث مرات وهو أمر غير مسبوق فى ايطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية وأن ينجو من أكثر من 50 اقتراعا لسحب الثقة عنه فى البرلمان، وذلك بالرغم من ملاحقته قضائيا بعشرات التهم والتى شملت الاختلاس والتهرب الضريبى والفساد السياسى والأخلاقى، ولكن لأن لكل فاسد نهاية كانت الأزمة الاقتصادية التى تواجهها إيطاليا هى القشة التى قصمت ظهر الفارس السياسى المحنك، وقطب الإعلام الايطالى الحكومى، نتيجة لفشله فى التعامل مع أزمة الديون الايطالية التى تهدد بتمزيق منطقة اليورو نظرا لضخامة قيمتها حيث تقدرب 1900 مليار يورو أى 120% من حجم الناتج المحلى الإجمالى لإيطاليا، بما يوازى ستة أضعاف ديون اليونان، مما يجعل مهمة إنقاذها من قبل الاتحاد الأوروبى مهمة شبه مستحيلة قد تقضى على مستقبل مشروع العملة الأوروبية الموحدة. وأمام الضغوط الداخلية من المعارضة الايطالية والضغوط الخارجية من قادة منطقة اليورو، لم يجد برلسكونى مفرا من تقديم استقالته وسط احتفالات المتظاهرين الذين رددوا هتافات من بينها «الربيع الربيع» فى إشارة إلى حركات الاحتجاج العربية، بينما وصفت الصحف الايطالية استقالة برلسكونى بأنه «يوم تاريخى يشكل نهاية عصر». وجاءت استقالة برلسكونى بعد إقرار البرلمان حزمة إجراءات تقشفية طالب بها الشركاء الأوروبيون لاستعادة ثقة الأسواق المالية فى الاقتصاد الايطالى، ومن بينها خفض الإنفاق ورفع سن التقاعد وزيادة الضرائب واتخاذ تدابير لجمع المال من خلال بيع ممتلكات تابعة للدولة. وفيما يشبه مهمة إنقاذ لايطاليا من أزمتها الاقتصادية الخانقة، تم تكليف المفوض الأوروبى السابق والخبير الاقتصادى ماريو مونتى (68 عاما) بتشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط ليخلف برلسكونى فى منصبه حتى عام 2013 موعد الانتخابات البرلمانية القادمة، ويتمتع مونتى بشخصية مغايرة تماما عن سلفه حيث يشهد له بالنزاهة والاعتدال والسمعة الطيبة خلال فترة عمله بالمفوضية الأوروبية (1994 - 2004) وهو لا ينتمى لأى حزب سياسى وتلقى تعليمه بجامعة بوكونى فى ميلانو، والتى تصنف على أنها الأفضل فى تعليم مبادئ الاقتصاد فى ايطاليا، وحصل فيها على الدكتوراه فى العلوم الاقتصادية. وأكمل مونتى دراسته فى الولاياتالمتحدة فى جامعة يال حيث تتلمذ على يد الخبير الاقتصادى الأمريكى الراحل جيمس توبن الحائز على جائزة نوبل. وكان مونتى يفضل دوما الانشغال بمهامه القارية فى بروكسل بعيدا عن السياسة الداخلية وصراعات الأحزاب فى بلاده خلال السنوات العشر الأخيرة حيث رفض تولى حقيبة الخارجية فى 2001 والاقتصاد فى 2004، ولهذا لم يسبق له تولى أى منصب سياسى داخل ايطاليا. ولكن شاء القدر أن يتولى رئاسة الحكومة الايطالية فى وقت تصارع فيه البلاد للخروج من أزمة اقتصادية طاحنة. فهل ينجح فى مهمته بالرغم من تنبؤ الاقتصادى نورييل روبينى، صاحب التوقعات الشهيرة بالأزمة المصرفية العالمية لعامى 2008 و2009، بفشل حزمة الإصلاحات المالية التى تبنتها ايطاليا مما قد يضطرها إلى الخروج من منطقة اليورو، إلى جانب اسبانيا، مما يعنى عمليا تفكك منطقة اليورو؟!