منذ «جمعة الغضب» فى 28 يناير الماضى، لم يعد يوم الجمعة كما عهدناه فى مصر رمزاً للسكون والإجازات.. وبعد أن تكللت «الجمع» التالية مثل «جمعة التحدى» و «جمعة الرحيل» فى إزاحة النظام السابق من الحكم.. أصبحت المليونيات هى السمة الأساسية ليوم الجمعة، وبخاصة فى ميدان التحرير بوسط القاهرة باعتباره مهد الثورة المصرية.. لكن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة الآن: إلى متى ستستمر هذه المليونيات؟ وهل استمرارها ضرورى لنجاح الثورة.. أو أنها أصبحت تشكل عبئاً عليها ويجب ترشيدها لتتواكب مع المستجدات أو المطالب التى تستحق فعلاً الخروج فى مليونية جديدة؟ الفكرة الأولى للمليونيات بدأت كرد فعل طبيعى للتضييق الأمنى على المتظاهرين يومى الثلاثاء والأربعاء 25و26 يناير إلى جانب اعتقال المئات نظرا للتظاهر فى أماكن متفرقة وصاروا صيدا سهلا لرجال الأمن. وجاء قرار الإخوان المسلمين بعد اجتماع سرى لها مساء الأربعاء 26 يناير بالمشاركة فى المظاهرات بكافة أعضائها التنظيميين بعد أداء صلاة جمعة 28 يناير الأمر الذى دعا النشطاء السياسيين والشباب على مواقع التواصل الاجتماعى إلى البحث عن تسمية للجمعة التى اتفق الكثير فى النهاية على تسميتها «جمعة الغضب»، وتحرك الآلاف فى كافة المحافظات معلنين عن غضبهم من استبداد النظام واستطاع المتظاهرون التجمع فى نقطة التقاء واحدة كانت ميدان التحرير باعتباره مركزا للأحداث، وفى الساعة الخامسة تقريبا شهد الميدان أعدادا غفيرة تقترب من نصف المليون متظاهر مما جعل الشباب يطلقون على تجمعهم مليونية، وتوالت أوراق الضغط حيث دعا الشباب إلى تكرار شكل المليونيات لإرهاب النظام، ثم شهد الأحد 30 يناير أول مليونية بعد «الغضب» وقرر المتظاهرون أن تكون أيام الأحد والثلاثاء والجمعة من كل أسبوع ميعادا للمليونيات التى كانت بالفعل قد تخطت فى الجمعة الثانية بعد الغضب والتى أطلق عليها جمعة «التحدى» المليون متظاهر، بينما كانت جمعة «الرحيل» أشبه بأجواء «الغضب» حيث قرر المتظاهرون التحرك إلى قصر الرئاسة وإجبار الرئيس على التخلى عن السلطة. وتوالت بعد تنحى حسنى مبارك المليونيات ولكن هذه المرة فى كل جمعة فقط وكان أشهرها على الإطلاق بعد التنحى مليونية «المحاكمة» و«الثورة أولا» و«لم الشمل». وعن هذه المليونيات أكد الدكتور عمرو هاشم ربيع أستاذ العلوم السياسية والخبير فى مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية أن المليونيات وحالات الاعتصام سوف تنتهى بعد استقرار البلاد عن طريق كتابة دستور جديد لمصر، بالإضافة إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وانتخاب برلمان قوى يعبر عن الشعب ويستطيع تنفيذ مطالبه وحقوقه وليس كما نرى الآن من حالة غريبة من عدم فهم الحكومة والمسئولين للثوار ومطالبهم، لافتا إلى أن مصر أمام تجمعات تدعى أنها ملكت الشارع وهى فى الحقيقة غير قادرة على فهم الشارع أو تحقيق جزء من مطالبه. عدوى التظاهر والاعتصام/U/ أما عن السبب الرئيسى فى عدوى التظاهر والاعتصامات التى تمر بها البلاد فقال هاشم إنها بسبب طريقة تعامل الحكومة مع مطالب الشعب أو المتظاهرين لأنها لم تتخذ أى قرار أو تحقق أى مطلب إلا بعد عمل مظاهرات أو اعتصامات، مما أدى إلى شعور المواطن بعدم حصوله على أى شىء يريده إلا بعد الدخول فى مظاهرة أو اعتصام مفتوح لحين تنفيذ المطالب وهذا هو الوضع منذ قيام الثورة وحتى الآن. وأكد ربيع أن هذه الحالة سوف تنتهى بعد وجود ممثلين للشعب داخل البرلمان يستطيعو استيعاب الشعب والشارع المصرى وبالتالى لا يوجد أى داعى للجوء أى شخص للتظاهر أو الاعتصام لتحقيق مطالبهم كما يحدث الآن. وأشار إلى أن مطالب الثوار الشرعية ليس بها أى صعوبة لتحقيقها، مضيفا أن أهم مطالبهم المحاكمات العاجلة والعادلة لقتلة المتظاهرين، بالإضافة إلى حقوق أسر الشهداء ومواجهة الفساد الموجود فى كل الوزارات والجهات الحكومية الموجودة بالبلاد. وعن لجوء المتظاهرين والقوى السياسية إلى الاعتصام فى غالبية الأوقات قال د.عمرو هاشم ربيع إن الاعتصام الدائم يؤدى إلى التباطؤ والمماطلة فى سير الأوضاع بالبلاد وحدوث مشادات بين المواطنين والمتظاهرين لعدم قدرة المواطنين على القيام بأعمالهم اليومية. موضحا أن التظاهر هو الأفضل خاصة مع تحديد يوم واحد وهو الجمعة، بالإضافة إلى تحديد ساعات معينة للتظاهر وقد تكون من بعد صلاة الجمعة إلى الساعة الثامنة مساء فهذه وسيلة جيدة للضغط. ويؤكد محمد القصاص عضو ائتلاف شباب الثورة وأحد القيادات الشابة فى جماعة الإخوان المسلمين أن المليونيات سوف تنتهى مع تأسيس دولة مدنية جديدة تتحقق فيها الحرية والديمقراطية بشكلها المأمول وليس بالكلام فقط، إلى جانب تحقيق أهداف الثورة كاملة وكتابة دستور جديد وانتخاب رئيس للجمهورية وبرلمان قوى، مؤكدا على ضرورة تطهير مصر من الفاسدين ومحاسبتهم لأن وجودهم يعرقل - بحسب تفسيره - تحقيق مطالب الثورة. وأكد القصاص أن القبض على قتلة المتظاهرين فى جميع الميادين والمحافظات مطلب عادل وشرعى وليس مطلبا خاصا أو فئويا ومن العدل أن يحقق هذا المطلب فى أسرع وقت ممكن لتهدئة المتظاهرين وخاصة أهالى الشهداء الذين فقدوا أولادهم، مشدداً على ضرورة تطهير وزارة الداخلية من رجال حبيب العادلى ومحاسبة كل الضباط والأشخاص المتورطين بقتل المتظاهرين هذا بالإضافة إلى عودة الأمن بصورته الفعلية فى البلاد والقضاء على ظواهر البلطجة والسرقة اليت سببت قلقلا فى الشارع المصرى. وأوضح القصاص أن التظاهر وسيلة للتعبير، والاعتصام وسيلة أقوى للضغط ولكن بعد التظاهر وعدم الاستجابة لمطالبنا جعلنا نلجأ إلى التصعيد بالاعتصام كوسيلة أقوى للضغط لتحقيق مطالبنا فى أسرع وقت. أوضاع محزنة/U/ وعلى الرغم من أنه اعتبر التظاهر حقاً مكفولاً لجميع المواطنين إلا أن الدكتور أحمد كمال أبو المجد المفكر الإسلامى ونائب رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان الأسبق، يرى أن الأوضاع الراهنة التى تشهدها مصر «محزنة»، وتؤكد «أننا أمة تحسن النية وتسيىء العمل لأنها لا تسمع إلا صوتها وترفض رأى الآخر ويجب أن نترك ما يشغل بالنا الآن من مليونيات لكى نعمل على بناء مصر». وأضاف أبو المجد أن مصر مقبلة على أول طريق الكارثة بعدما ارتكبنا ما حذرنا منه القرآن فى قوله تعالى:«ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، موضحاً أن الإنسان المصرى فقد - مع الأسف - الأذنين وصار يتكلم أكثر مما يسمع ثم ينتظر نصر الله والذى لا ينصر إلا من نصر نفسه واتسع صدره للرأى الآخر، لكن المصرى لا يسمع إلا نفسه ولا يؤمن إلا برأيه، والإصلاح لا يتم بين يوم وليلة وكل عقلاء الأمة وخبرائها يعلمون ذلك علم اليقين، غير أن المجرب والمبتدئ لا يدرك ذلك. وتابع:«لا تشغلنى محاكمة مبارك، ولو انشغلت بيها يبقى عيب، لأنه يتحاكم ولا يطير احنا مالنا، ما يهمنى هو التحديات التى تواجه الأمة، فلابد أن نفتح عيوننا أكثر على العالم ويستعمل المصريون عقولهم ويكفى ما حدث من تعطيل للعقل على مدار سنوات مضت، ونعمل على إنجاح الثورة وليس النظر إلى الخلف، كما أن تجميع صف القوى الوطنية على هدف واحد يصل بمصر إلى بر الأمان، والأولوية الأولى لمصر الآن هى توحيد كلمة الأمة فى إطار أدب الحوار ومن المهم للجميع أن يدرك أهمية توحيد نسيج الأمة وتوحد الخطى والكف عن المبارزات الكلامية». وأكد أبو المجد أن التيار الإسلامى عليه إعادة ترتيب أوراقه فى الوقت الراهن على أن يتجنب أخطاءه التى وقع فيها بعد الثورة مباشرة ويعمل فورا على الاندماج فى الحركة الوطنية ويجب ألا ينشغل بالإسراع فى إجراء الانتخابات عن دوره فى الانصهار داخل القوى السياسية والتفاعل بدون «تشدد» مع الشارع المصرى. وأضاف: أمامنا عدو آخر وهو عدو النفس، والإصلاح له مرحلتان الأولى هى التنبيه والتذكير المستمر بأهميته والثانية إصلاح المؤسسات التى تتولى تعليم الأمة وتربية الأجيال، فنحن نريد نظاما تعليميا يعلمنا الرشد ويعلمنا منهجية التفكير وجمع الشمل، وهناك عدوان من حولنا أولهما المشروع الصهيونى الذى يوشك أن يبتلع عالمنا العربى والإسلامى بتأييد من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى، والعدو الثانى هو استدامة التخلف الذى نزرعه كل يوم بأيدينا ونعيش الحياة فى تواكل. وانتقد أبو المجد السعى إلى تطبيق قانون الغدر والذى كان مفعلاً فى الخمسينات بعد ثورة 23 يوليو، قائلا:لماذا نستخرج من الماضى القوانين التى تقتلع المصريين من الجذور وتحاسبهم على نواياهم فى حين أن ثورة 25 يناير قامت ضد الظلم، وإذا أردنا محاسبة رموز النظام السابق على ما ارتكبوه من «حماقة سياسية» فإن المشرع عليه تشريع قانون مكافحة الفساد والذى يساوى بدوره العقاب السياسى مع العقاب الجنائى. من جانبه، رفض المستشار هشام البسطويسى، المرشح المحتمل لانتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، الحجر على المواطن المصرى فى إبداء رأيه أو الهجوم على المليونيات أو التظاهرات السلمية،مشيراً إلى أن الحق فى الاعتصام والتظاهر لا يمكن لأحد يسعى إلى بناء مصر أن يقف أمامه أو يدعوا إلى تحجيم المواطن وتحديد مواعيد للتظاهر أو مواقيت للتعبير عن رأيه. وأكد البسطويسى أن المظاهرات هى الضمانة الوحيدة لاستكمال مطالب ثورة 25 يناير، مطالبا شباب الثورة بالحرص على نجاح ثورتهم حتى آخر نفس والحفاظ على سلمية المظاهرات وعدم التعرض للمؤسسات والهيئات الحكومية. التوفيق لا التلفيق/U/ بينما دعا حمدين صباحى المرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة إلى حوار وطنى جاد مسئول وعقلانى بين القوى السياسية والوطنية على تنوعها بما فيها التيار الإسلامى بمختلف فصائله من إخوان إلى سلفيين إلى صوفيين، بالإضافة للمدارس السياسية والفكرية فى مصر القومية واليسارية والليبرالية، وذلك للتوصل إلى طريقة واحدة نستطيع من خلالها بناء مصر، مؤكدا رفضه الوقوف أمام الحق فى التظاهر. وقال صباحى إن ما نحتاجه الآن هو الحوار والوصول لتوافق وطنى وإدراك مشترك من أجل بناء أرضية مشتركة فى هذه المرحلة الانتقالية المهمة فى تاريخ مصر. وأكد أن الحوار الوطنى يجب أن يقوم على رفض الاستعلاء أو الهيمنة من أى طرف ورفض إقصاء أو استبعاد أى طرف، داعيا إلى التوفيق لا التلفيق بين القوى الوطنية. وبرؤية مثقف قال الروائى والكاتب الصحفى محمد المخزنجى - وهو أول من طرح هدنة رمضان للقوى السياسية على أن نعتبر الشهر الكريم استراحة محارب من المظاهرات - إن التباطؤ هو ما يؤدى إلى المليونيات والتى ستنتهى بمجرد إزالة الغضب الناجم عن إهمال أهالى الشهداء وعلاج المصابين. مشيرا فى الوقت نفسه إلى أن التظاهرت التى تؤدى الى غلق مجمع التحرير والتهديد بغلق المترو وقناة السويس هى لا تنم عن أية حكمة «ثورية»، لأنها ببساطة ضد منطق الثوار الذين ينبغى أن يكون أولى أولوياتهم اكتساب تعاطف جموع الناس العاديين الذين يشكلون حصن أمان الثورة وجيش دفاعها الجرار فى اللحظات الفاصلة. ويضيف المخزنجى أن شهر رمضان يجعلنا نقترح أمراً محدداً وهو أن كل القوى المخلصة وبعيدة النظر، والعقلاء الشرفاء من مختلف الفصائل والأطياف، أن يتبنوا الدعوة إلى إيقاف كل التظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، واعتبار هذا الشهر هدنة نرى فيها ما يتوجب إنجازه من مطالب الثورة، خاصة إعمال العدالة فيمن أجرموا فى حق الأمة من عصابة النظام الساقط، وتطهير ما تبقى من فلوله وذيوله فى مواقع التأثير والتدمير دون جور ولا مزايدة، وتفعيل أقصى ما يمكن تفعيله من آليات العدل الاجتماعى لصالح الفقراء، أما المهمة العاجلة الأكبر للحكومة خلال الهدنة فهى استعادة الأمن الذى تنشط فى ظلاله مبادرات الأمة.